والمنع من هذه الحيل هو الصحيح قطعا ، لما روى  عبد الله بن عمرو  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ،   [ ص: 203 ] ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك   " رواه الأئمة الخمسة :  أحمد  وأبو داود   والنسائي   والترمذي   وابن ماجه  ، وقال  الترمذي     : حديث حسن صحيح ، فنهى - صلى الله عليه وسلم - عن أن يجمع بين سلف وبيع  ، فإذا جمع بين سلف وإجارة فهو جمع بين سلف وبيع أو مثله ، وكل تبرع يجمعه إلى البيع والإجارة ، مثل : الهبة والعارية ، والعرية ، والمحاباة في المساقاة والمزارعة والمبايعة ، وغير ذلك : هي مثل القرض .
فجماع معنى الحديث : أن لا يجمع بين معاوضة وتبرع ; لأن ذلك التبرع إنما كان لأجل المعاوضة ، لا تبرعا مطلقا ، فيصير جزءا من العوض ، فإذا اتفقا على أنه ليس بعوض جمعا بين أمرين متنافيين ، فإن من أقرض رجلا ألف درهم ، وباعه سلعة تساوي خمسمائة بألف لم يرض [بالاقتراض] إلا بالثمن الزائد للسلعة ، والمشتري لم يرض ببذل ذلك الثمن الزائد إلا لأجل الألف التي اقترضها ، فلا هذا باع بيعا بألف ، ولا هذا أقرض قرضا محضا ، بل الحقيقة : أنه أعطاه الألف والسلعة بألفين فهي مسألة " مد عجوة "  ، فإذا كان المقصود أخذ ألف بأكثر من ألف : حرم بلا تردد ، وإلا خرج على الخلاف المعروف ، وهكذا من أكرى الأرض التي تساوي مائة بألف وأعراه الشجر ، أو رضي من ثمرها بجزء من ألف جزء ، فمعلوم بالاضطرار : أنه إنما تبرع بالثمرة لأجل الألف التي أخذها ، وأن المستأجر إنما بذل الألف لأجل الثمرة ، فالثمرة هي جل   [ ص: 204 ] المقصود المعقود عليه أو بعضه ، فليست الحيلة إلا ضربا من اللعب [والإفساد] ، وإلا فالمقصود المعقود عليه ظاهر . 
والذين لا يحتالون ، أو يحتالون وقد ظهر لهم فساد هذه الحيلة [هم] بين أمرين : إما أن يفعلوا ذلك للحاجة ، ويعتقدوا أنهم فاعلون للمحرم ، كما رأينا عليه أكثر الناس ، وإما أن يتركوا ذلك ويتركوا تناول الثمار الداخلة في هذه المعاملة فيدخل عليهم من الضرر [والاضطرار] ما لا يعلمه إلا الله ، وإن أمكن أن يلتزم ذلك واحد أو اثنان ، فما يمكن المسلمين التزام ذلك إلا بفساد الأموال الذي لا تأتي به شريعة قط ، فضلا عن شريعة قال الله فيها : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج    ) [الحج : 78] ، وقال تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر    ) [ البقرة : 185] ، وقال تعالى : ( يريد الله أن يخفف عنكم    ) [النساء : 28] ، وفي الصحيحين : " إنما بعثتم ميسرين   " ، " ويسروا ولا تعسروا   " ، " ليعلم اليهود أن في ديننا سعة   " ، فكل ما لا يتم المعاش إلا به فتحريمه حرج ، وهو منتف شرعا . 
والغرض من هذا : أن تحريم مثل هذا مما لا يمكن الأمة التزامه قط ، لما فيه من الفساد الذي لا يطاق ، فعلم أنه ليس بحرام   [ ص: 205 ] بل هو أشد من الأغلال والآصار التي كانت على بني إسرائيل  ووضعها الله عنا على لسان محمد    - صلى الله عليه وسلم - ومن استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها وجدها مبنية على قوله تعالى : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه    ) [ البقرة : 173] ، وقوله : ( فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم    ) [المائدة : 3] ، فكل ما احتاج الناس إليه في معاشهم ، ولم يكن سببه معصية : هي ترك واجب ، أو فعل محرم ، لم يحرم عليهم ; لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ ولا عاد ، وإن كان سببه معصية ، كالمسافر سفر معصية اضطر فيه إلى الميتة ، والمنفق للمال في المعاصي حتى لزمته الديون ، فإنه يؤمر بالتوبة ، ويباح له ما يزيل ضرورته ، فتباح له الميتة ، ويقضى عنه دينه من الزكاة ، وإن لم يتب فهو الظالم لنفسه المحتال ، وحاله كحال الذين قال الله فيهم : ( إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون    ) [ الأعراف : ] ، وقوله : ( فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم    ) [النساء : 160] وهذه قاعدة عظيمة ربما ننبه إن شاء الله عليها . 
وهذا القول المأثور عن السلف الذي اختاره  ابن عقيل     : هو قياس أصول  أحمد  وبعض أصول  الشافعي  ، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى ، لوجوه متعددة بعد الأدلة الدالة على نفي التحريم شرعا وعقلا ، فإن دلالة هذه إنما تتم بعد الجواب عما استدل به أصحاب القول الأول . 
الوجه الأول : ما ذكرناه من فعل  عمر  في قصة  أسيد بن الحضير  ، فإنه قبل الأرض والشجر الذي فيها بالمال الذي كان للغرماء ، وهذا عين مسألتنا ، ولا يحمل ذلك على أن النخل والشجر كان قليلا ، فإنه من المعلوم أن حيطان أهل المدينة  كان الغالب عليها   [ ص: 206 ] الشجر ،  وأسيد بن الحضير  كان من سادات الأنصار  ومياسيرهم ، فبعيد أن يكون الغالب على حائطه الأرض البيضاء ، ثم هذه القصة لا بد أن تشتهر ، ولم يبلغنا أن أحدا أنكرها فيكون إجماعا ، وكذلك ما ضربه من الخراج على السواد ، فإن تسميته خراجا يدل على أنه عوض عما ينتفعون به من منفعة الأرض والشجر ، كما يسمي الناس اليوم كراء الأرض لمن يغرسها خراجا ، إذا كان على كل شجرة شيء معلوم ، ومنه قوله : ( أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير    ) [المؤمنون : 72] ومنه خراج العبد ، فإنه عبارة عن ضريبة يخرجها لسيده من ماله ، فمن اعتقد أنه أجرة وجب عليه أن يعتقد جواز مثل هذا ، لأنه ثابت بإجماع الصحابة . ومن اعتقد أنه ثمن أو عوض مستقل بنفسه فمعلوم أنه لا يشبه غيره ، وإنما جوزه الصحابة - ولا نظير له - لأجل الحاجة الداعية إليه ، والحاجة إلى ذلك موجودة في كل أرض فيها شجر كالأرض المفتتحة سواء . 
فإنه إن قيل : يمكن المساقاة أو المزارعة ، قيل : وقد كان يمكن عمر المساقاة والمزارعة ، كما فعل في أثناء الدولة العباسية ، إما في خلافة  المنصور  وإما بعده ، فإنهم نقلوا أرض السواد من الخراج إلى المقاسمة ، التي هي المساقاة والمزارعة . 
وإن قيل : إنه يمكن جعل الكراء بإزاء الأرض والتبرع بمنفعة الشجر أو المحاباة فيها ، قيل : قد كان يمكن عمر ذلك ، فالقدر المشترك بينهما ظاهر . 
وأيضا : فإنا نعلم قطعا أن المسلمين ما زالت لهم أرضون فيها شجر [تكرى] بل هذا غالب على أموال أهل الأمصار . ونعلم أن   [ ص: 207 ] السلف لم يكونوا كلهم يعمرون أرضهم بأنفسهم ولا غالبهم ، ونعلم أن المساقاة والمزارعة لا تتيسر في كل وقت ; لأنها تفتقر إلى عامل أمين ، وما كل أحد يرضى بالمساقاة ، ولا كل من أخذ الأرض يرضى بالمشاركة ، فلا بد أن يكونوا قد كانوا يكرون الأرض السوداء ذات الشجر ، ومعلوم أن الاحتيال بالتبرع أمر [بارد] لم يكن السلف من الصحابة والتابعين يفعلونه ، فلم يبق إلا أنهم كانوا يفعلون كما فعل  عمر  بمال  أسيد بن الحضير  ، وكما يفعله غالب المسلمين من تلك الأزمنة وإلى اليوم . 
فإذا لم ينقل عن السلف أنهم حرموا هذه الإجارة ، ولا أنهم أمروا بحيلة التبرع - مع قيام المقتضى لفعل هذه المعاملة - علم قطعا أن المسلمين كانوا يفعلونها من غير نكير من الصحابة والتابعين ، فيكون فعلها كان إجماعا منهم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					