ولعل الذين اختلفوا في كراء الأرض البيضاء أو المزارعة  لم يختلفوا في كراء الأرض السوداء ، ولا في المساقاة ; لأن منفعة الأرض ليس فيها طائل بالنسبة إلى منفعة الشجر . 
فإن قيل : فقد قال  حرب الكرماني     : سئل  أحمد  عن تفسير حديث  ابن عمر     : " القبالات ربا " قال : هو أن يتقبل القرية فيها النخل والعلوج ، قيل : فإن لم يكن فيها نخل ، وهي أرض بيضاء ؟ قال : لا بأس ، إنما هو الآن مستأجر ، قيل : فإن فيها علوجا ؟ قال : فهذا هو القبالة المكروهة ، قال حرب : حدثنا  عبيد الله بن معاذ   [ ص: 208 ] حدثنا أبي حدثنا  سعيد  عن  جبلة  سمع  ابن عمر  يقول : " القبالات ربا " ، قيل : الربا فيما يجوز تأجيله إنما يكون في الجنس الواحد ، لأجل الفضل ، فإذا قيل في الأجرة أو الثمن أو نحوهما : إنه ربا ، مع جواز تأجيله ، فلأنه معاوضة بجنسه متفاضلا ; لأن الربا إما ربا النساء ، وذلك [لا يكون فيما يجوز ] تأجيله ، وإما ربا الفضل ، وذلك لا يكون إلا في الجنس الواحد ، فإذا انتفى ربا النساء الذي هو التأخير لم يبق إلا ربا الفضل ، الذي هو الزيادة في الجنس الواحد ، وهذا يكون إذا كان التقبل بجنس مغل الأرض ، مثل : أن يقبل الأرض التي فيها نخل [بتمر] ، فيكون مثل المزابنة ، وهذا مثل اكتراء الأرض بجنس الخارج منها إذا كان مضمونا في الذمة  ، مثل : أن يكتريها ليزرع فيها حنطة بحنطة معلومة ، ففيه روايتان عن  أحمد  ، إحداهما : أنه ربا ، كقول  مالك  ، وهذا مثل القبالة التي كرهها  ابن عمر     ; لأنه ضمن الأرض للحنطة بحنطة [معلومة ، فكأنه ابتاع حنطة بحنطة] تكون أكثر أو أقل ، فيظهر الربا . 
فالقبالات التي ذكر  ابن عمر  أنها ربا : هو أن يضمن الأرض التي فيها النخل والفلاحون من جنس مغلها ، مثل أن يكون لرجل قرية فيها شجر وأرض ، وفيها فلاحون يعملون ، تغل له ما تغل من الحنطة والتمر بعد أجرة الفلاحين أو نصيبهم ، فيضمنها رجل منه بمقدار معلوم من الحنطة والتمر ونحو ذلك ، فهذا مظهر تسميته بالربا ، فأما ضمان الأرض بالدراهم والدنانير  فليس من باب   [ ص: 209 ] الربا بسبيل ، ومن حرمه فهو عنده من باب الغرر . 
ثم إن  أحمد  لم يكره ذلك إذا كانت أرضا بيضاء ; لأن الإجارة عنده جائزة ، وإن كانت الأجرة من جنس الخارج على إحدى الروايتين ; لأن المستأجر يعمل في الأرض بمنفعته وماله ، فيكون المغل بكسبه ، بخلاف ما إذا كان فيها العلوج ، وهم الذين يعالجون العمل ، فإنه لا يعمل فيها شيئا لا بمنفعته ولا بماله ، بل العلوج يعملونها ، وهو يؤدي القبالة ويأخذ بدلها ، فهو طلب الربح في مبادلة المال من غير صناعة ولا تجارة ، وهذا هو الربا ، ونظير هذا ما جاء به عن [  ابن عمر     ] أنه ربا ، وهو اكتراء الحمام والطاحون والفنادق ، ونحو ذلك مما لا ينتفع المستأجر به ، فلا يتجر فيه ولا يصطنع فيه ، وإنما يكتريه ليكريه فقط ، فقد قيل : هو ربا . 
والحاصل أنها لم تكن ربا لأجل النخل ، ولا لأجل الأرض إذا كانت بغير جنس المغل ، وإنما كانت ربا لأجل العلوج ، وهذه الصورة لا حاجة إليها ، فإن العلوج يقومون بها ، فتقبيلها لآخر مراباة له ، ولهذا كرهها  أحمد  ، وإن كانت بيضاء إذا كان فيها العلوج . 
وقد استدل  حرب الكرماني  على المسألة بمعاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل خيبر على أرضها : بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع ، على أن يعمروها من أموالهم ، وذلك أن هذا في المعنى إكراء للأرض منهم ببعض ما يخرج منها ، مع إكراء الشجر بنصف ثمره ، فيقاس عليه إكراء الأرض والشجر بشيء مضمون ; لأن إعطاء الثمر لو كان بمنزلة بيعه ، لكان إعطاء بعضه بمنزلة بيعه ، وذلك لا يجوز ، وهذه المسألة لها أصلان : 
 [ ص: 210 ] الأصل الأول : أنه متى كان بين الشجر أرض أو مساكن دعت الحاجة إلى كرائهما جميعا ، فيجوز لأجل الحاجة ، وإن كان في ذلك غرر يسير ، لا سيما إن كان البستان وقفا ، أو مال يتيم ، فإن تعطيل منفعته لا يجوز ، وإكراء الأرض أو المسكن وحده لا يقع في العادة ، ولا يدخل أحد في إجارته على ذلك ، وإن اكتراه اكتراه بنقص كثير عن قيمته ، وما لا يتم المباح إلا به فهو مباح ، فكل ما ثبت إباحته بنص أو إجماع وجب إباحة لوازمه ، إذا لم يكن في تحريمها نص ولا إجماع ، وإن قام دليل يقتضي تحريم لوازمه ، وما لا يتم اجتناب المحرم إلا باجتنابه فهو حرام ، فهنا يتعارض الدليلان . 
وفي مسألتنا قد ثبت إباحة كراء بالسنة واتفاق الفقهاء المتبوعين ، بخلاف دخول كراء الشجر ، فإن تحريمه مختلف فيه ، ولا نص فيه . 
وأيضا : فمتى أكريت الأرض وحدها وبقي الشجر لم يكن المكتري مأمونا على الثمر ، فيفضي إلى اختلاف الأيدي وسوء المشاركة ، كما إذا بدا الصلاح في نوع واحد ، يخرج على هذا القول ، مثل قول  الليث بن سعد     : إذا بدا الصلاح في جنس - وكان في بيعه متفرقا ضرر    - جاز بيع جميع الأجناس . [وبه فسر] تفريق الصفقة ، ولأنه إذا أراد أن يبيع الثمر بعد ذلك لم يجد من يشتري الثمرة إذا كانت الأرض والمساكن لغيره إلا بنقص كثير ، ولأنه إذا أكرى الأرض ، فإن شرط عليه سقي الشجر - والسقي من جملة المعقود عليه - صار المعوض عوضا ، وإن لم يشرط عليه السقي ، فإذا سقاها - إن ساقاه عليها - صارت الإجارة لا تصح إلا بمساقاة ، وإن   [ ص: 211 ] لم يساقه لزم تعطيل منفعة المستأجر ، فيدور الأمر بين أن تكون الأجرة بعض المنفعة ، أو لا تصح الإجارة إلا بمساقاة ، أو بتفويت منفعة المستأجر ، ثم إن حصل للمكري جميع الثمرة أو بعضها ففي بيعها - مع أن الأرض والمساكن لغيره - نقص للقيمة في مواضع كثيرة . 
فيرجع الأمر إلى أن الصفقة إذا كان في تفريقها ضرر جاز الجمع بينهما في المعاوضة ، وإن لم يجز إفراد كل منهما ; لأن حكم الجمع يخالف حكم التفريق ، ولهذا وجب عند  أحمد  وأكثر الفقهاء على أحد الشريكين إذا تعذرت القسمة : أن يبيع مع شريكه أو يؤاجر معه ، إن كان المشترك منفعة ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أعتق شركا له في عبد ، وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل ، فأعطى شركاءه حصصهم ، وعتق عليه العبد ، وإلا فقد عتق عليه ما عتق   " أخرجاه في الصحيحين ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتقويم العبد كله ، وبإعطاء الشريك حصته من القيمة ، ومعلوم أن قيمة حصته مفردة دون حصته من قيمة الجميع ، فعلم أن حقه في نصف النصف ، وإذا استحق ذلك بالإعتاق فبسائر أنواع الإتلاف أولى ، وإنما يستحق بالإتلاف ما يستحق بالمعاوضة ، فعلم أنه يستحق بالمعاوضة نصف القيمة ، وإنما يمكن ذلك عند بيع الجميع ، فيجب قسمة العين حيث لا ضرر فيها ، فإن كان فيها ضرر قسمت القيمة . 
فإذا كنا قد أوجبنا على الشريك بيع نصيبه لما في التفريق من نقص قيمة شريكه ، فلأن يجوز بيع الأمرين جميعا - إذا كان في   [ ص: 212 ] تفريقهما ضرر - أولى ، ولذلك جاز بيع الشاة مع اللبن الذي في ضرعها  ، وإن أمكن تفريقهما بالحلب ، وإن كان بيع اللبن وحده لا يجوز . 
وعلى هذا الأصل : فيجوز متى كان مع الشجر منفعة مقصودة ، كمنفعة أرض للزرع أو بناء للسكن ، وأما إن كان المقصود هو الثمر فقط ، ومنفعة الأرض أو المسكن ليست جزءا من المقصود ، وإنما دخلت لمجرد الحيلة ، كما قد يفعل في مسائل " مد عجوة " لم يجئ هذا الأصل . 
الأصل الثاني : أن يقال : إكراء الشجر للاستثمار يجري مجرى إكراء الأرض للازدراع ، واستئجار الظئر للرضاع ، وذلك : أن الفوائد التي [تستخلف] مع بقاء أصولها تجري مجرى المنافع ، وإن كانت أعيانا ، وهي ثمر الشجر ولبن الآدميات ، والبهائم والصوف ، والماء العذب ، فإنه كلما خلق من هذه شيء فأخذ ، خلق الله بدله مع بقاء الأصل ، كالمنافع سواء ، ولهذا جرت في الوقف والعارية والمعاملة بجزء من النماء مجرى المنفعة ، فإن الوقف لا يكون إلا فيما ينتفع به مع بقاء أصله ، فإذا جاز وقف الأرض البيضاء أو الرباع لمنفعتها ، فكذلك وقف الحيطان لثمرتها ، ووقف الماشية لدرها وصوفها ، ووقف الآبار والعيون لمائها ، بخلاف ما يذهب بالانتفاع كالطعام ، ونحوه فلا يوقف . 
وأما باب العارية فيسمون إباحة الظهر إفقارا ، يقال : أفقره الظهر ، وما أبيح لبنه : منيحة ، وما أبيح ثمره : عرية ، وغير ذلك   [ ص: 213 ] عارية ، وشبهوا ذلك بالقرض الذي ينتفع به المقترض ثم يرد مثله . ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " منيحة لبن ، أو منيحة ورق   " فاكتراء الشجر ; لأن يعمل عليها ويأخذ ثمرها  بمنزلة استئجار الظئر لأجل لبنها ، وليس في القرآن إجارة منصوصة إلا إجارة الظئر في قوله سبحانه : ( فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن    ) [الطلاق : 6] . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					