حدثنا محمد بن إبراهيم بن أحمد  ، ثنا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن عبد الله الدقاق والمعروف بابن السماك البغدادي  ، ثنا محمد بن عبيد الله المديني  ، حدثني أحمد بن موسى النجار  ، قال : قال أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الأموي  ، ثنا   [ ص: 85 ] عبد الله بن محمد البلوي  ، قال : لما جيء  بأبي عبد الله الشافعي  إلى العراق  أدخل إليها ليلا على بغل قتب ، وعليه طيلسان مطبق ، وفي رجليه حديد ، وذاك أنه كان من أصحاب عبد الله بن الحسن  ، وأصبح الناس في يوم الاثنين لعشر خلون من شعبان سنة أربع وثمانين ومائة ، وكان قد اعتور على  هارون الرشيد   أبو يوسف القاضي  ، وكان قاضي القضاة محمد بن الحسن  على المظالم ، فكان  الرشيد  يصدر عن رأيهما ، ويتفقه بقولهما ، فسبقا في ذلك اليوم إلى  الرشيد  ، فأخبراه بمكان  الشافعي  ، وانبسطا جميعا في الكلام ، فقال محمد بن الحسن    : الحمد لله الذي مكن لك في البلاد ، وملكك رقاب العباد ، من كل باغ ومعاند إلى يوم المعاد ، لا زلت مسموعا لك ومطاعا ، فقد علت الدعوة ، وظهر أمر الله وهم كارهون ، وإن جماعة من أصحاب عبد الله بن الحسن  اجتمعت وهم متفرقون ، قد أتاك من ينوب عن الجميع ، وهو على الباب ، يقال له : محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف  ، يزعم أنه أحق بهذا الأمر منك ، وحاش لله ، ثم إنه يدعي من العلم ما لم يبلغه سنه ، ولا يشهد له بذلك قدره ، وله لسان ومنطق ورواء ، وسيحليك بلسانه وأنا خائف ، كفاك الله مهماتك ، وأقالك عثراتك . ثم أمسك ، فأقبل  الرشيد  على أبي يوسف  ، فقال : يا يعقوب  ، قال : لبيك يا أمير المؤمنين ، قال : أنكرت من مقالة محمد  شيئا ؟ فقال له أبو يوسف    : محمد  صادق فيما قاله ، والرجل كما خلق ، فقال  الرشيد    : لا خبر بعد شاهدين ، ولا إقرار أبلغ من المحنة ، وكفى بالمرء إنما أن يشهد بشهادة يخفيها عن خصمه ، على رسلكما لا تبرحا ، ثم أمر  بالشافعي  فأدخل ، فوضع بين يديه بالحديد الذي كان في رجليه ، فلما استقر به المجلس ، ورمى القوم إليه بأبصارهم ، رمى  الشافعي  بطرفه نحو أمير المؤمنين ، وأشار بكفة كتابه مسلما ، فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، فقال له  الرشيد    : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ، بدأت بسنة لم تؤمر بإقامتها ، وزدنا فريضة قامت بذاتها ، ومن أعجب العجب أنك تكلمت في مجلسي بغير أمري ، فقال له  الشافعي    : يا أمير   [ ص: 86 ] المؤمنين ، إن الله عز وجل وعد ( الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا    ) ، وهو الذي إذا وعد وفى ، فقد مكنني في أرضه ، وأمنني بعد خوفي يا أمير المؤمنين ، فقال له  الرشيد    : أجل قد أمنك الله إن أمنتك ، فقال  الشافعي    : فقد حدثت أنك لا تقتل قومك صبرا ، ولا تزدريهم بهجرتك غدرا ، ولا تكذبهم إذا أقاموا لديك عذرا ، فقال  الرشيد    : هو كذلك ، فما عذرك مع ما أرى من حالك ، وتسييرك من حجازك إلى عراقنا التي فتحها الله علينا بعد أن بغى صاحبك ثم اتبعه الأرذلون وأنت رئيسهم ؟ فما ينفع لك القول مع إقامة الحجة ، ولن تضر الشهادة مع إظهار التوبة ، فقال له  الشافعي    : يا أمير المؤمنين ، أما إذا استطلقني الكلام ، فلسنا نكلم إلا على العدل والنصفة ، فقال له الرشيد : ذلك لك ، فقال  الشافعي    : والله يا أمير المؤمنين لو اتسع لي الكلام على ما بي لما شكوت ، لكن الكلام مع ثقل الحديد يعور ، فإن جدت علي بفكه تركت كسره إياي وأفصحت عن نفسي ، وإن كانت الأخرى فيدك العليا ويدي السفلى ، والله غني حميد ، فقال  الرشيد  لغلامه : يا سراج  ، حل عنه . فأخذ ما في قدميه من الحديد ، فجثا على ركبته اليسرى ، ونصب اليمنى ، وابتدر الكلام فقال : والله يا أمير المؤمنين ، لأن يحشرني الله تحت راية عبد الله بن الحسن  ، وهو ممن قد علمت لا ينكر عنه اختلاف الأهواء ، وتفرق الآراء ، أحب إلي وإلى كل مؤمن من أن يحشرني تحت راية  قطري بن الفجاءة المازني    . وكان  الرشيد  متكئا فاستوى جالسا ، وقال : صدقت وبررت ، لأن تكون تحت راية رجل من أهل بيت رسول الله وأقاربه إذا اختلفت الأهواء ، خير من أن يحشرك الله تحت راية خارجي يأخذه الله بغتة ، فأخبرني يا شافعي  ، ما حجتك على أن قريشا  كلها أئمة وأنت منهم ؟ قال  الشافعي    : قد افتريت على الله كذبا يا أمير المؤمنين إن تطب نفسي لها ، وهذه كلمة ما سبقت بها ، والذين حكوها لأمير المؤمنين أبطلوا معانيه ، فإن الشهادة لا تجوز إلا كذلك ، فنظر أمير المؤمنين إليهما ،   [ ص: 87 ] فلما رآهما لا يتكلمان علم ما في ذلك وأمسك عنهما ، ثم قال له  الرشيد    : قد صدقت يا ابن إدريس  ، فكيف بصرك بكتاب الله تعالى ؟ فقال له  الشافعي    : عن أي كتاب الله تسألني ؟ فإن الله سبحانه وتعالى أنزل ثلاثة وسبعين كتابا على خمسة أنبياء ، وأنزل كتابا موعظة لنبي وحده ، وكان سادسا ، أولهم آدم  عليه السلام ، وعليه أنزل ثلاثين صحيفة كلها أمثال ، وأنزل على أخنوخ وهو إدريس  عليه السلام ست عشرة صحيفة كلها حكم ، وعلم الملكوت الأعلى ، وأنزل على إبراهيم  عليه السلام ثمانية صحف كلها حكم مفصلة ، فيها فرائض ونذر ، وأنزل على موسى  عليه السلام التوراة ، كلها تخويف وموعظة ، وأنزل على عيسى  عليه السلام الإنجيل : ليبين لبني إسرائيل  ما اختلفوا فيه من التوراة ، وأنزل على داود  عليه السلام كتابا كله دعاء وموعظة لنفسه حتى يخلصه به من خطيئته ، وحكم فيه لنا واتعاظ لداود  وأقاربه من بعده ، وأنزل على محمد  صلى الله عليه وسلم الفرقان ، وجمع فيه سائر الكتب ، فقال : ( تبيانا لكل شيء    ) ، ( وهدى وموعظة    ) ، ( أحكمت آياته ثم فصلت    ) . فقال له  الرشيد    : قد أحسنت في تفصيلك ، أفكل هذا علمته ؟ فقال له : إي والله يا أمير المؤمنين ، فقال له  الرشيد    : قصدي كتاب الله الذي أنزله الله على ابن عمي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دعانا إلى قبوله ، وأمرنا بالعمل بمحكمه ، والإيمان بمتشابهه ، فقال : عن أي آية تسألني ؟ عن محكمه أم عن متشابهه ؟ أم عن تقديمه أم عن تأخيره ؟ أم عن ناسخه أم عن منسوخه ؟ أم عن ما ثبت حكمه وارتفعت تلاوته ؟ أم عن ما ثبتت تلاوته وارتفع حكمه ؟ أم عن ما ضربه الله مثلا ؟ أم عن ما ضربه الله اعتبارا ؟ أم عن ما أحصى فيه فعال الأمم السالفة ؟ أم عن ما قصدنا الله به من فعله تحذيرا ؟ قال : بم ذاك ؟ حتى عد له  الشافعي  ثلاثة وسبعين حكما في القرآن ، فقال له  الرشيد    : ويحك يا شافعي  ، أفكل هذا يحيط به علمك ؟ فقال له : يا أمير المؤمنين ، المحنة على القائل كالنار على الفضة ، تخرج جودتها من رداءتها ، فها أنا ذا فامتحن ، فقال له  الرشيد    : ما أحسن ! أعد ما قلت فسأسألك عنه بعد هذا المجلس إن شاء الله ، قال له : وكيف بصرك بسنة رسول الله صلى الله عليه   [ ص: 88 ] وسلم ؟ فقال له  الشافعي    : إني لأعرف منها ما يخرج على وجه الإيجاب ، ولا يجوز تركه ، كما لا يجوز ترك ما أوجبه الله تعالى في القرآن ، وما خرج على وجه التأديب ، وما خرج على وجه الخاص لا يشرك فيه العام ، وما خرج على وجه العموم يدخل فيه الخصوص ، وما خرج جوابا عن سؤال سائل ليس لغيره استعماله ، وما خرج منه ابتداء لازدحام العلوم في صدره ، وما فعله في خاصة نفسه ، واقتدى به الخاصة والعامة ، وما خص به نفسه دون الناس كلهم مع ما لا ينبغي ذكره ، لأنه أسقطه عليه السلام عن الناس وسنه ذكرا ، فقال له  الرشيد    : أخذت الترتيب يا شافعي  لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأحسنت موضعها لوصفها ، فما حاجتنا إلى التكرار عليك ، ونحن نعلم ومن حضرنا أنك حامل نصابها مقلا بها ؟ فقال له  الشافعي    : ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ، وإنما شرفنا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيك ، فقال : كيف بصرك بالعربية ؟ قال : هي مبدؤنا ، وطباعنا بها قومت ، وألسنتنا بها جرت ، فصارت كالحياة لا تتم إلا بالسلامة ، وكذلك العربية لا تسلم إلا لأهلها ، ولقد ولدت وما أعرف اللحن ، فكنت كمن سلم من الداء ما سلم له الدواء ، وعاش بكامل الهناء ، وبذلك شهد لي القرآن : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه    ) - يعني قريشا    - وأنت وأنا منهم يا أمير المؤمنين ، والعنصر نظيف ، والجرثومة منيعة شامخة ، أنت أصل ونحن فرع ، وهو صلى الله عليه وسلم مفسر ومبين ، به اجتمعت أحسابنا ، فنحن بنو الإسلام ، وبذلك ندعى وننسب ، فقال له  الرشيد    : صدقت ، بارك الله فيك ، ثم قال له : كيف معرفتك بالشعر ؟ فقال : إني لأعرف طويله وكامله ، وسريعه ومجتثه ، ومنسرحه وخفيفه ، وهزجه ورجزه ، وحكمه وغزله ، وما قيل فيه على الأمثال تبيانا للأخبار ، وما قصد به العشاق رجاء للتلاق ، وما رثي به الأوائل ليتأدب به الأواخر ، وما امتدح به المكثرون بابتلاء أمرائهم ، وعامتها كذب وزور ، وما نطق به الشاعر ليعرف تنبيها وحال لشيخه ، فوجل شاعره ، وما خرج على طرب من قائله لا أرب له ، وما تكلم به الشاعر فصار حكمة لمستمعه ، فقال له  الرشيد    : اكفف يا شافعي  ، فقد أنفقت   [ ص: 89 ] في الشعر ، ما ظننت أن أحدا يعرف هذا ويزيد على الخليل  حرفا ، ولقد زدت وأفضلت ، فكيف معرفتك بالعرب ؟ قال : أما أنا فمن أضبط الناس لآبائها وجوامع أحسابها ، وشوابك أنسابها ، ومعرفة وقائعها ، وحمل مغازيها في أزمنتها ، وكمية ملوكها وكيفية ملكها وماهية مراتبها ، وتكميل منازلها وأندية عراضها ومنازلها ، منهم تبع ، وحمير ، وجفنة ، والأسطح ، وعيص ، وعويص ، والإسكندر ، وأسفاد ، وأسططاويس ، وسوط ، وبقراط ، وأرسططاليس ، من أمثالهم من الروم  إلى كسرى ، وقيصر ، ونوبة ، وأحمر ، وعمرو بن هند  ، وسيف بن ذي يزن  ، والنعمان بن المنذر  ، وقطر بن أسعد  ، وسعد بن سعفان ، وهو جد سطيح الغساني لأبيه  ، في أمثالهم من ملوك قضاعة  وهمدان  ، والحيان : ربيعة  ، ومضر  ، فقال له  الرشيد    : يا شافعي  ، لولا أنك من قريش  لقلت : إنك ممن لين له الحديد  ، فهل من موعظة ؟ فقال  الشافعي    : إنك تخلع رداء الكبر عن عاتقك ، وتضع تاج الهيبة عن رأسك ، وتنزع قميص التجبر عن جسدك ، وتفتش نفسك ، وتنشر سرك ، وتلقي جلباب الحياء عن وجهك ، مستكينا بين يدي ربك ، وأكون واعظا لك عن الحق ، وتكون مستمعا بحسن القبول ، فينفعني الله بما أقول ، وينفعك بما تسمع ، فقال له  الرشيد    : أما إني قد فعلت وسمعت لله والرسول وللواعظين بعدهما ، فعظ وأوجز . فحل  الشافعي  عنه إزاره ، وحسر عن ذراعيه ، وقال : أيا أمير المؤمنين ، اعلم أن الله جل ثناؤه امتحنك بالنعم ، وابتلاك بالشكر  ، ففضل النعمة أحسن لتستغرق بقليلها كثيرا من شكرك ، فكن لله تعالى شاكرا ولآلائه ذاكرا ، تستحق منه المزيد ، واتق الله في السر والعلانية تستكمل الطاعة  ، واسمع لقائل الحق وإن كان دونك تشرف عند الله ، وتزد في عين رعيتك ، واعلم أن الله سبحانه وتعالى يفتش سرك ، فإن وجده بخلاف علانيتك شغلك بهم الدنيا ، وفتق لك ما يزنق عليك ، ( واستغنى الله والله غني حميد    ) ، وإن وجده موافقا لعلانيتك أحبك ، وصرف هم الدنيا عن قلبك ، وكفاك مئونة نظرك لغيرك ، وترك لك نظرك لنفسك ، وكان المقوي لسياستك ، ولن   [ ص: 90 ] تطاع إلا بطاعتك لله تعالى ، فكن له طائعا تكتسب بذلك السلامة في العاجل ، وحسن المنقلب في الآجل ، فـ : (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون    ) ، واحذر الله حذر عبد علم مكان عدوه ، وغاب عنه وليه ، فتيقظ خوف السرى ، لا تأمن من مكر الله لتواتر نعمه عليك ، فإن ذلك مفسدة لك ، وذهاب لدينك ، وأسقط المهابة في الأولين والآخرين ، وعليك بكتاب الله الذي لا يضل المسترشد به ، ولن تهلك ما تمسكت به ، فاعتصم بالله تجده تجاهك ، وعليك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تكن على طريقة الذين هداهم الله ( فبهداهم اقتده    ) ، وما نصب الخلفاء المهديون في الخراج والأرضين ، والسواد والمساكن والديارات ، فكن لهم تبعا وبه عاملا راضيا مسلما ، واحذر التلبيس فيه ، فإنك مسئول عن رعيتك ، وعليك بالمهاجرين  والأنصار  ، الذين تبوءوا الدار والإيمان ، فاقبل من محسنهم ، وتجاوز عن مسيئهم ، وآتهم من مال الله الذي أتاك ، ولا تكرههم على إمساك عن حق ، ولا على خوض في باطل ، فإنهم الذين مكنوا لك البلاد ، واستخلصوا لك العباد ، ونوروا لك الظلمة ، وكشفوا عنك الغمة ، ومكنوا لك في الأرض ، وعرفوك السياسة ، وقلدوك الرياسة ، فنهضت بثقلها بعد ضعف ، وقويت عليها بعد فشل ، كل ذلك يرجوك من كان من أمثالهم لعفتهم طمع الزيادة لهم ، فلا تطع الخاصة تقربا إليهم بظلم العامة ، ولا تطع العامة تقربا إليهم بظلم الخاصة لتستديم السلامة ، وكن لله كما تحب أن يكون لك أولياؤك من العامة من السمع والطاعة : فإنه ما ولي أحد على عشرة من المسلمين فلم يحطهم بنصيحة إلا جاء يوم القيامة ويده مغلولة إلى عنقه ، لا يفكها إلا عدله ، وأنت أعرف بنفسك . قال : فبكى  الرشيد    - وقد كان في خلال هذه الموعظة يبكي لا يسمع له صوت - فلما بلغ إلى هذا الفصل بكى  الرشيد  وعلا نحيبه ، وبكى جلساؤه ، وبكى محمد  وأبو يوسف  ، فقال الوالي : يا هذا الرجل ، احبس لسانك عن أمير المؤمنين ، فقد قطعت قلبه حزنا ، وقال محمد بن الحسن  وهو قائم على قدمه : اغمد لسانك يا شافعي  عن أمير المؤمنين ، فإنه أمضى من سيفك - والرشيد  يبكي لا يفيق - فأقبل   [ ص: 91 ]  الشافعي  على محمد  والجماعة ، فقال : اسكتوا أخرسكم الله ، لا تذهبوا بنور الحكمة يا معشر عبيد الرعاع وعبيد السوط والعصا ، أخذ الله لأمير المؤمنين منكم لتلبيسكم الحق عليه ، وهو يرثكم الملك لديه ، أما والله ما زالت الخلافة بخير ما صدف عنها أمثالكم ، ولن تزال بضر ما اعتصمت بكم ، فرفع  الرشيد  رأسه ، وأشار إليهم أن كفوا ، وأقبل علي بسيف فقال : خذ هذا الكهل إليك ، ولا تحلني منه ، ثم أقبل على  الشافعي  ، فقال : قد أمرت لك بصلة ، فرأيك في قبولها موقف . فقال له  الشافعي    : كلا ، والله لا يراني الله تعالى قد سودت وجه موعظتي بقبول الجزاء عليها ، ولقد عاهدت الله عهدا أني لا أخلط بملك من الملوك تكبر في نفسه وتصغر عند ربه ، إلا ذكرت الله تعالى لعله أن يحدث له ذكرا . ثم نهض ، فلما خرج أقبل  الرشيد  على محمد  ويعقوب  ، فقال لهما : ما رأيت كاليوم قط ، أفرأيتما كيومكما ؟ فلم نجد بدا من أن نقول : لا . فقال  الرشيد  لهما : أبهذا تغرياني ؟ لقد بؤتما اليوم بإثم عظيم ، لولا أن من الله علي بالتأييد في أمره ، كيفما أوقعتماني فيما لا خلاص لي منه عند ربي . ثم وثب  الرشيد  وانصرف الناس ، فلقد رأيت محمدا  وهو بعد ذلك يكثر التردد إلى  الشافعي  ، وربما حجب ، ثم إن  الشافعي  بعد ذلك دخل على  الرشيد  ، فأمر له بألف دينار فقبلها ، فضحك  الرشيد  ، وقال : لله درك ! ما أفطنك ؟ قاتل الله عدوك فقد أصبح لك وليا . وأمر  الرشيد  خادمه سراجا  باتباعه ، فما زال يفرقها قبضة قبضة حتى انتهى إلى خارج الدار وما معه إلا قبضة واحدة ، فدفعها إلى غلامه ، وقال له : انتفع بها . فأخبر سراج   الرشيد  بذلك ، فقال : لهذا ذرع همه وقوي متنه ، فاستمر  الرشيد  عليهما   . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					