يا أوليائي لكم عاتبت ، وفي إياكم رغبت ، ومنكم الوفاء طلبت ، ولكم اصطفيت وانتخبت ، ولكم استخدمت واختصصت ، لأني لا أحب استخدام الجبارين ، ولا مواصلة المتكبرين ، ولا مصافاة المخلطين ، ولا مجاوبة المخادعين ، ولا قرب المعجبين ، ولا مجالسة البطالين ، ولا موالاة الشرهين .
يا أوليائي جزائي لكم أفضل الجزاء ، وعطائي لكم أجزل العطاء ، وبذلي لكم أفضل البذل ، وفضلي عليكم أكثر الفضل ، ومعاملتي لكم أوفى المعاملة ، ومطالبتي لكم أشد المطالبة ، أنا مجتني القلوب ، وأنا علام الغيوب ، وأنا مراقب الحركات ، وأنا ملاحظ اللحظات ، أنا المشرف على الخواطر ، أنا العالم بمجال الفكر ، فكونوا دعاة إلي ، لا يفزعكم ذو سلطان سوائي ، فمن عاداكم عاديته ، ومن والاكم واليته ، ومن آذاكم أهلكته ، ومن أحسن إليكم جازيته ، ومن هجركم قليته .
قال الشيخ رحمه الله : وهم الشغفون به وبوده ، والكلفون بخطابه وعهده .
حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا ابن منصور المدايني ، حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي ، حدثنا عبد الله بن محمد بن الحسن بن عروة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أن موسى - عليه السلام - قال : يا رب ، أخبرني بأكرم خلقك عليك ، قال : الذي يسرع إلى هواي إسراع النسر إلى هواه ، والذي يكلف بعبادي الصالحين كما يكلف الصبي بالناس ، والذي يغضب إذا انتهكت محارمي غضب النمر لنفسه ، فإن النمر إذا غضب لم يبال أقل الناس أم كثروا " .
حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، حدثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان الحناط ، حدثنا أبو الفيض ذو النون بن إبراهيم المصري قال : إن لله عز وجل لصفوة من خلقه ، وإن لله عز وجل لخيرة ، فقيل له : يا أبا الفيض ، فما علامتهم ؟ قال : إذا خلع العبد الراحة ، وأعطى المجهود في الطاعة ، وأحب سقوط المنزلة . ثم قال :
[ ص: 14 ]
منع القران بوعده ووعـيده مقل العيون بليلها أن تهجعا فهموا عن الملك الكريم كلامه
فهما تذل له الرقاب وتخضعا
قال الشيخ أبو نعيم رحمه الله : وهم مصابيح الدجى ، وينابيع الرشد والحجى ، خصوا بخفي الاختصاص ، ونقوا من التصنع بالإخلاص .
حدثنا عبد الله بن محمد ، وأبو أحمد محمد بن أحمد - في جماعة - قالوا : حدثنا الفضل بن الحباب ، حدثنا شاذ بن فياض ، حدثنا أبو قحذم ، عن أبي قلابة ، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، قال : مر عمر بمعاذ بن جبل - رضي الله تعالى عنهما - وهو يبكي ، فقال : ما يبكيك يا معاذ ؟ فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " أحب العباد إلى الله تعالى الأتقياء الأخفياء ، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا ، وإذا شهدوا لم يعرفوا ، أولئك هم أئمة الهدى ومصابيح العلم " .
حدثنا أبو عمرو بن حمدان ، حدثنا الحسن بن سفيان ، حدثنا أبو موسى إسحاق بن إبراهيم الهروي ، حدثنا أبو معاوية عمرو بن عبد الجبار السنجاري ، حدثنا عبيدة بن حسان ، عن عبد الحميد بن ثابت بن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم [ ص: 16 ] قال : حدثني أبي ، عن جدي : شهدت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسا ، فقال : " طوبى للمخلصين ، أولئك مصابيح الهدى ، تنجلي عنهم كل فتنة ظلماء " .
قال الشيخ رحمه الله : وهم الواصلون بالحبل ، والباذلون للفضل ، والحاكمون بالعدل .
حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن ، حدثنا بشر بن موسى ، حدثنا يحيى بن إسحاق السليحيني ، حدثنا ابن لهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أتدرون من السابقون إلى ظل الله عز وجل ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم " . رواه أحمد بن حنبل عن يحيى بن إسحاق مثله .
قال الشيخ رحمه الله : وهم المنبسطون جهرا ، المنقبضون سرا ، يبسطهم روح الارتياح والاشتياق ، ويقلقهم خوف القطيعة والفراق .
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن محمد بن زكريا ، حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا الوليد بن إسماعيل الحراني ، حدثنا شيبان بن مهران ، عن خالد بن المغيرة بن قيس ، عن مكحول ، عن عياض بن غنم أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن من خيار أمتي- فيما نبأني الملأ الأعلى ، في الدرجات العلى - قوما يضحكون جهرا من سعة رحمة ربهم ، ويبكون سرا من خوف شدة عذاب ربهم عز وجل ، يذكرون ربهم بالغداة والعشي ، في بيوته الطيبة ، ويدعونه بألسنتهم رغبا ورهبا ، ويسألونه بأيديهم خفضا ورفعا ، ويشتاقون إليه بقلوبهم عودا وبدءا ، مؤنتهم على الناس خفيفة ، وعلى أنفسهم ثقيلة ، يدبون في الأرض حفاة على أقدامهم دبيب النمل بغير مرح ولا بذخ ولا مثلة ، يمشون بالسكينة ، ويتقربون بالوسيلة ، يلبسون الخلقان ، ويتبعون البرهان ، ويتلون الفرقان ، ويقربون القربان ، عليهم من الله تعالى شهود حاضرة ، وأعين حافظة ونعم ظاهرة ، يتوسمون العباد ، ويتفكرون في البلاد ، أجسادهم في الأرض وأعينهم في السماء ، أقدامهم في الأرض وقلوبهم في السماء ، وأنفسهم في الأرض وأفئدتهم عند العرش ، أرواحهم في الدنيا وعقولهم في الآخرة ، [ ص: 17 ] ليس لهم هم إلا أمامهم ، قبورهم في الدنيا ، ومقامهم عند ربهم عز وجل ، ثم تلى هذه الآية : ( ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ) .
قال الشيخ رحمه الله : وهم المبادرون إلى الحقوق من غير تسويف ، والموفون الطاعات من غير تطفيف .
حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا محمد بن موسى الأيلي ، ثنا عمر بن يحيى الأيلي ، ثنا حكيم بن حزام ، عن أبي جناب الكلبي ، عن أبي الزبير ، عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن من موجبات الله ثلاثا : إذا رأى حقا من حقوق الله لم يؤخره إلى أيام لا يدركها ، وأن يعمل العمل الصالح العلانية على قوام من عمله في السريرة ، وهو يجمع مع ما يعمل صلاح ما يأمل " . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فهكذا ولى الله وعدد بيده ثلاثا " .
حدثنا أبو بكر بن خلاد ، ثنا الحارث بن أبي أسامة ، ثنا داود بن المحبر ، ثنا ميسرة بن عبد ربه ، عن حنظلة بن وداعة ، عن أبيه ، عن البراء بن عازب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن لله عز وجل خواص يسكنهم الرفيع من الجنان كانوا أعقل الناس " قلنا : يا رسول الله ، وكيف كانوا أعقل الناس ؟ قال : " كانت همتهم المسابقة إلى ربهم عز وجل ، والمسارعة إلى ما يرضيه ، وزهدوا في فضول الدنيا ورياستها ونعيمها ، وهانت عليهم ، فصبروا قليلا ، واستراحوا طويلا " .


