أما قوله تعالى : ( وأحل الله البيع وحرم الربا    ) ففيه مسائل : 
المسألة الأولى : يحتمل أن يكون هذا الكلام من تمام كلام الكفار ، والمعنى أنهم قالوا : البيع مثل الربا ، ثم إنكم تقولون ( وأحل الله البيع وحرم الربا    ) فكيف يعقل هذا ؟ يعني أنهما لما كانا متماثلين فلو حل أحدهما وحرم الآخر لكان ذلك إيقاعا للتفرقة بين المثلين ، وذلك غير لائق بحكمة الحكيم , فقوله : ( وأحل الله البيع وحرم الربا    ) ذكره الكفار على سبيل الاستبعاد ، وأما أكثر المفسرين فقد اتفقوا على أن كلام الكفار انقطع عند قوله : ( إنما البيع مثل الربا    ) وأما قوله : ( وأحل الله البيع وحرم الربا    ) فهو كلام الله تعالى ونصه على هذا الفرق ذكره إبطالا لقول الكفار إنما البيع مثل الربا ، والحجة على صحة هذا القول وجوه : 
 [ ص: 81 ] الحجة الأولى : أن قول من قال : هذا كلام الكفار لا يتم إلا بإضمار زيادات بأن يحمل ذلك على الاستفهام على سبيل الإنكار ، أو يحمل ذلك على الرواية من قول المسلمين ، ومعلوم أن الإضمار خلاف الأصل ، وأما إذا جعلناه كلام الله ابتداء لم يحتج فيه إلى هذا الإضمار ، فكان ذلك أولى . 
الحجة الثانية : أن المسلمين أبدا كانوا متمسكين في جميع مسائل البيع بهذه الآية ولولا أنهم علموا أن ذلك كلام الله لا كلام الكفار ، وإلا لما جاز لهم أن يستدلوا به ، وفي هذه الحجة كلام سيأتي في المسألة الثانية . 
الحجة الثالثة : أنه تعالى ذكر عقيب هذه الكلمة قوله : ( فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون    ) فظاهر هذا الكلام يقتضي أنهم لما تمسكوا بتلك الشبهة وهي قوله : ( إنما البيع مثل الربا    ) فالله تعالى قد كشف عن فساد تلك الشبهة وعن ضعفها ، ولو لم يكن قوله : ( وأحل الله البيع وحرم الربا    ) كلام الله لم يكن جواب تلك الشبهة مذكورا فلم يكن قوله : ( جاءه موعظة من ربه    ) لائقا بهذا الموضع . 
المسألة الثانية : مذهب  الشافعي  رضي الله عنه أن قوله : ( وأحل الله البيع وحرم الربا    ) من المجملات التي لا يجوز التمسك بها ، وهذا هو المختار عندي ، ويدل عليه وجوه : 
الأول : أنا بينا في أصول الفقه أن الاسم المفرد المحلى بلام التعريف لا يفيد العموم البتة ، بل ليس فيه إلا تعريف الماهية ، ومتى كان كذلك كفى العمل به في ثبوت حكمه في صورة واحدة . 
والوجه الثاني : وهو أنا إذا سلمنا أنه يفيد العموم ، ولكنا لا نشك أن إفادته العموم أضعف من إفادة ألفاظ الجمع للعموم ، مثلا قوله : ( وأحل الله البيع    ) وإن أفاد الاستغراق إلا أن قوله وأحل الله البيعات أقوى في إفادة الاستغراق ، فثبت أن قوله : ( وأحل الله البيع    ) لا يفيد الاستغراق إلا إفادة ضعيفة ، ثم تقدير العموم لا بد وأن يتطرق إليها تخصيصات كثيرة خارجة عن الحصر والضبط ، ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه كذب والكذب على الله تعالى محال ، فأما العام الذي يكون موضع التخصيص منه قليلا جدا فذلك جائز ؛ لأن إطلاق لفظ الاستغراق على الأغلب عرف مشهور في كلام العرب ، فثبت أن حمل هذا على العموم غير جائز . 
الوجه الثالث : ما روي عن عمر  رضي الله عنه قال : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا وما سألناه عن الربا ، ولو كان هذا اللفظ مفيدا للعموم لما قال ذلك فعلمنا أن هذه الآية من المجملات . 
الوجه الرابع : أن قوله : ( وأحل الله البيع    ) يقتضي أن يكون كل بيع حلالا ، وقوله : ( وحرم الربا    ) يقتضي أن يكون كل ربا حراما  ؛ لأن الربا هو الزيادة ولا بيع إلا ويقصد به الزيادة ، فأول الآية أباح جميع البيوع ، وآخرها حرم الجميع ، فلا يعرف الحلال من الحرام بهذه الآية ، فكانت مجملة ، فوجب الرجوع في الحلال والحرام إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم . 
				
						
						
