المسألة الثانية : اختلفوا في أن قوله ( زين للناس    ) من الذي زين ذلك ؟ أما أصحابنا فقولهم فيه ظاهر ، وذلك لأن عندهم خالق جميع الأفعال  هو الله تعالى ، وأيضا قالوا : لو كان المزين الشيطان فمن الذي زين الكفر والبدعة للشيطان ، فإن كان ذلك شيطانا آخر لزم التسلسل ، وإن وقع ذلك من نفس ذلك الشيطان في الإنسان فليكن كذلك الإنسان ، وإن كان من الله تعالى ، وهو الحق فليكن في حق الإنسان كذلك ، وفي القرآن إشارة إلى هذه النكتة في سورة القصص في قوله ( ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا    ) [ القصص : 63 ] يعني إن اعتقد أحد أنا أغويناهم فمن الذي أغوانا ، وهذا الكلام ظاهر جدا . 
أما المعتزلة  فالقاضي نقل عنهم ثلاثة أقوال : 
القول الأول : حكي عن الحسن  أنه قال : الشيطان زين لهم ، وكان يحلف على ذلك بالله ، واحتج القاضي لهم بوجوه : 
أحدها : أنه تعالى أطلق حب الشهوات ، فيدخل فيه الشهوات المحرمة ومزين الشهوات المحرمة هو الشيطان    . 
وثانيها : أنه تعالى ذكر القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ؛ وحب هذا المال الكثير   [ ص: 169 ] إلى هذا الحد لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه ، ومنتهى مقصوده ، لأن أهل الآخرة يكتفون بالغلبة . 
وثالثها : قوله تعالى : ( ذلك متاع الحياة الدنيا    ) ولا شك أن الله تعالى ذكر ذلك في معرض الذم للدنيا ، والذم للشيء يمتنع أن يكون مزينا له . 
ورابعها : قوله بعد هذه الآية ( قل أؤنبئكم بخير من ذلكم    ) والمقصود من هذا الكلام صرف العبد عن الدنيا وتقبيحها في عينه  ، وذلك لا يليق بمن يزين الدنيا في عينه . 
والقول الثاني : قول قوم آخرين من المعتزلة    : وهو أن المزين لهذه الأشياء هو الله واحتجوا عليه بوجوه : 
أحدها : أنه تعالى كما رغب في منافع الآخرة فقد خلق ملاذ الدنيا وأباحها لعبيده ، وإباحتها للعبيد تزيين لها ، فإنه تعالى إذا خلق الشهوة والمشتهى ، وخلق للمشتهي علما بما في تناول المشتهى من اللذة ، ثم أباح له ذلك التناول كان تعالى مزينا لها . 
وثانيها : أن الانتفاع بهذه المشتهيات وسائل إلى منافع الآخرة  ، والله تعالى قد ندب إليها ، فكان مزينا لها ، وإنما قلنا : إن الانتفاع بها وسائل إلى ثواب الآخرة لوجوه : 
الأول : أن يتصدق بها . 
والثاني : أن يتقوى بها على طاعة الله تعالى . 
والثالث : أنه إذا انتفع بها وعلم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتخليق الله تعالى وإعانته صار ذلك سببا لاشتغال العبد بالشكر العظيم ، ولذلك كان  الصاحب ابن عباد  يقول : شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد من أقصى القلب ; وذكر شعرا هذا معناه   . 
والرابع : أن القادر على التمتع بهذه اللذات والطيبات إذا تركها واشتغل بالعبودية وتحمل ما فيها من المشقة كان أكثر ثوابا ، فثبت بهذه الوجوه أن الانتفاع بهذه الطيبات وسائل إلى ثواب الآخرة . 
والخامس : قوله تعالى : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا    ) [ البقرة : 29 ] وقال : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق    ) [ الأعراف : 32 ] وقال : ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها    ) [ الكهف : 7 ] وقال : ( خذوا زينتكم عند كل مسجد    ) [ الأعراف : 31 ] وقال في سورة البقرة ( وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم    ) [ البقرة : 22 ] وقال ( كلوا مما في الأرض حلالا طيبا    ) [ البقرة : 168 ] وكل ذلك يدل على أن التزيين من الله تعالى ، ومما يؤكد ذلك قراءة  مجاهد    " زين للناس " على تسمية الفاعل . 
والقول الثالث : وهو اختيار  أبي علي الجبائي  والقاضي : وهو التفصيل ، وذلك أن كل ما كان من هذا الباب واجبا أو مندوبا كان التزيين فيه من الله تعالى ، وكل ما كان حراما كان التزيين فيه من الشيطان ; هذا ما ذكره القاضي ، وبقي قسم ثالث وهو المباح الذي لا يكون في فعله ولا في تركه ثواب ولا عقاب ، والقاضي ما ذكر هذا القسم ، وكان من حقه أن يذكره ويبين أن التزيين فيه من الله تعالى ، أو من الشيطان . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					