وأما قوله : ( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا    ) فالمراد منه أنواع الإيذاء الحاصلة من اليهود  والنصارى  والمشركين للمسلمين  ، وذلك لأنهم كانوا يقولون عزير ابن الله ، والمسيح  ابن الله ، وثالث ثلاثة ، وكانوا يطعنون في الرسول عليه الصلاة والسلام بكل ما يقدرون عليه ، ولقد هجاه كعب بن الأشرف  ، وكانوا يحرضون الناس على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم . وأما المشركون فهم كانوا يحرضون الناس على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم ويجمعون العساكر على محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم ويثبطون المسلمين عن نصرته ، فيجب أن يكون الكلام محمولا على الكل إذ ليس حمله على البعض أولى من حمله على الثاني . 
ثم قال تعالى عطفا على الأمرين : ( وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور    ) وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : قال المفسرون : بعث الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر  إلى فنحاص اليهودي  يستمده ، فقال فنحاص    : قد احتاج ربك إلى أن نمده ، فهم أبو بكر  رضي الله عنه أن يضربه بالسيف ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه : لا تغلبن على شيء حتى ترجع إلي ، فتذكر أبو بكر  رضي الله عنه ذلك وكف عن الضرب ونزلت هذه الآية   . 
المسألة الثانية : للآية تأويلان : 
الأول : أن المراد منه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمصابرة على الابتلاء في النفس والمال  ، والمصابرة على تحمل الأذى وترك المعارضة والمقابلة ، وإنما أوجب الله تعالى ذلك لأنه أقرب إلى دخول المخالف في الدين ، كما قال : ( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى    ) [ طه : 44 ] وقال : ( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله    ) [ الجاثية : 14 ] والمراد بهذا الغفران الصبر وترك الانتقام ، وقال تعالى : ( وإذا مروا باللغو مروا كراما    ) [ الفرقان : 72 ] وقال : ( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل    ) [ الأحقاف : 35 ] وقال : ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم    ) [ فصلت : 34 ] قال الواحدي    - رحمه الله - : كان هذا قبل نزول آية السيف . 
قال القفال    - رحمه الله - : الذي عندي أن هذا ليس بمنسوخ ، والظاهر أنها نزلت عقيب قصة أحد  ، والمعنى أنهم أمروا بالصبر على ما يؤذون به الرسول صلى الله عليه وسلم على طريق الأقوال الجارية فيما بينهم ، واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوال ، والأمر بالقتال لا ينافي الأمر بالمصابرة على هذا الوجه . واعلم أن قول الواحدي  ضعيف ، والقول ما قاله القفال    . 
الوجه الثاني في التأويل : أن يكون المراد من الصبر والتقوى : الصبر على مجاهدة الكفار   [ ص: 105 ] ومنابذتهم والإنكار عليهم ، فأمروا بالصبر على مشاق الجهاد ، والجري على نهج  أبي بكر الصديق  رضي الله عنه في الإنكار على اليهود  والاتقاء عن المداهنة مع الكفار والسكوت عن إظهار الإنكار . 
المسألة الثالثة : الصبر عبارة عن احتمال المكروه  ، والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي  فقدم ذكر الصبر ثم ذكر عقبه التقوى ، لأن الإنسان إنما يقدم على الصبر لأجل أنه يريد الاتقاء عما لا ينبغي . وفيه وجه آخر : وهو أن المراد من الصبر هو أن مقابلة الإساءة بالإساءة تفضي إلى ازدياد الإساءة ، فأمر بالصبر تقليلا لمضار الدنيا ، وأمر بالتقوى تقليلا لمضار الآخرة ، فكانت الآية على هذا التأويل جامعة لآداب الدنيا والآخرة . 
المسألة الرابعة : قوله : ( من عزم الأمور    ) أي من صواب التدبير الذي لا شك في ظهور الرشد فيه ، وهو مما ينبغي لكل عاقل أن يعزم عليه ، فتأخذ نفسه لا محالة به ، والعزم كأنه من جملة الحزم ، وأصله من قول الرجل : عزمت عليك أن تفعل كذا ، أي ألزمته إياك لا محالة على وجه لا يجوز ذلك الترخص في تركه ، فما كان من الأمور حميد العاقبة معروفا بالرشد والصواب فهو من عزم الأمور لأنه مما لا يجوز لعاقل أن يترخص في تركه . ويحتمل وجها آخر ، وهو أن يكون معناه : فإن ذلك مما قد عزم عليكم فيه أي ألزمتم الأخذ به ، والله أعلم . 
				
						
						
