( فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون    ) ثم قال تعالى : ( فلا تخشوا الناس واخشون    ) 
واعلم أنه تعالى لما قرر أن النبيين والربانيين والأحبار كانوا قائمين بإمضاء أحكام التوراة من غير مبالاة ، خاطب اليهود  الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنعهم من التحريف والتغيير . 
واعلم أن إقدام القوم على التحريف لا بد وأن يكون لخوف ورهبة ، أو لطمع ورغبة ، ولما كان الخوف أقوى تأثيرا من الطمع قدم - تعالى - ذكره فقال : ( فلا تخشوا الناس واخشون    ) والمعنى إياكم وأن تحرفوا كتابي للخوف من الناس والملوك والأشراف ، فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم وتستخرجوا الحيل في سقوط تكاليف الله تعالى عنهم ، فلا تكونوا خائفين من الناس ، بل كونوا خائفين مني ومن عقابي . 
ولما ذكر أمر الرهبة أتبعه بأمر الرغبة ، فقال   ( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا    )  أي كما نهيتكم عن تغيير أحكامي لأجل الخوف والرهبة ، فكذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في المال والجاه وأخذ الرشوة ، فإن كل متاع الدنيا قليل ، والرشوة التي تأخذونها منهم في غاية القلة ، والرشوة لكونها سحتا تكون قليلة البركة والبقاء والمنفعة ، فكذلك المال الذي تكتسبونه قليل من قليل ، ثم أنتم تضيعون بسببه الدين والثواب المؤبد والسعادات التي لا نهاية لها . 
ويحتمل أيضا أن يكون إقدامهم على التحريف والتبديل لمجموع الأمرين ، للخوف من الرؤساء ولأخذ الرشوة من العامة ، ولما منعهم الله من الأمرين على ما في كل واحد منهما من الدناءة والسقوط كان ذلك برهانا قاطعا في المنع من التحريف والتبديل . 
 [ ص: 6 ] ثم إنه أتبع هذا البرهان الباهر بالوعيد الشديد ، فقال :   ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون    )  وفيه مسألتان : 
المسألة الأولى : المقصود من هذا الكلام تهديد اليهود  في إقدامهم على تحريف حكم الله تعالى في حد الزاني المحصن ، يعني أنهم لما أنكروا حكم الله المنصوص عليه في التوراة وقالوا : إنه غير واجب ، فهم كافرون على الإطلاق ، لا يستحقون اسم الإيمان لا بموسى  والتوراة ولا بمحمد  والقرآن . 
المسألة الثانية : قالت الخوارج    : كل من عصى الله فهو كافر    . وقال جمهور الأئمة : ليس الأمر كذلك ، أما الخوارج  فقد احتجوا بهذه الآية وقالوا : إنها نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله ، فوجب أن يكون كافرا . 
وذكر المتكلمون والمفسرون أجوبة عن هذه الشبهة : 
الأول : أن هذه الآية نزلت في اليهود  فتكون مختصة بهم ، وهذا ضعيف ; لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ومنهم من حاول دفع هذا السؤال فقال : المراد ومن لم يحكم من هؤلاء الذين سبق ذكرهم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، وهذا أيضا ضعيف لأن قوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله    ) كلام أدخل فيه كلمة ( من ) في معرض الشرط ، فيكون للعموم ، وقول من يقول : المراد ومن لم يحكم بما أنزل الله من الذين سبق ذكرهم فهو زيادة في النص وذلك غير جائز . 
الثاني : قال عطاء    : هو كفر دون كفر ، وقال طاوس    : ليس بكفر ينقل عن الملة كمن يكفر بالله واليوم الآخر ، فكأنهم حملوا الآية على كفر النعمة لا على كفر الدين ، وهو أيضا ضعيف ; لأن لفظ الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدين . 
والثالث : قال  ابن الأنباري    : يجوز أن يكون المعنى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار ، ويشبه من أجل ذلك الكافرين ، وهذا ضعيف أيضا ; لأنه عدول عن الظاهر . 
والرابع : قال عبد العزيز بن يحيى الكناني    : قوله ( بما أنزل الله    ) صيغة عموم ، فقوله ( ومن لم يحكم بما أنزل الله    ) معناه من أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، وهذا حق لأن الكافر هو الذي أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله  ، أما الفاسق فإنه لم يأت بضد حكم الله إلا في القليل ، وهو العمل ، أما في الاعتقاد والإقرار فهو موافق ، وهذا أيضا ضعيف ; لأنه لو كانت هذه الآية وعيدا مخصوصا بمن خالف حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله تعالى لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في الرجم ، وأجمع المفسرون على أن هذا الوعيد يتناول اليهود  بسبب مخالفتهم حكم الله تعالى في واقعة الرجم ، فيدل على سقوط هذا الجواب . 
والخامس : قال عكرمة    : قوله ( ومن لم يحكم بما أنزل الله    ) إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه ، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه كونه حكم الله ، إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل الله تعالى ، ولكنه تارك له ، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية ، وهذا هو الجواب الصحيح والله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					