[ ص: 121 ]   ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون    ) . 
قوله تعالى :( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون    ) . 
اعلم أنه تعالى أمر رسوله بأن يسعى في تخذيلهم وإهانتهم وإذلالهم ، فالذي سبق ذكره في الآية الأولى وهو منعهم من الخروج معه إلى الغزوات سبب قوي من أسباب إذلالهم وإهانتهم ، وهذا الذي ذكره في هذه الآية ، وهو منع الرسول من أن يصلي على من مات منهم  سبب آخر قوي في إذلالهم وتخذيلهم . عن  ابن عباس  رضي الله عنهما أنه لما اشتكى عبد الله بن أبي ابن سلول  عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات  ويقوم على قبره ، ثم إنه أرسل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يطلب منه قميصه ليكفن فيه ، فأرسل إليه القميص الفوقاني ، فرده وطلب الذي يلي جلده ليكفن فيه ، فقال عمر  رضي الله عنه : لم تعطي قميصك الرجس النجس ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئا ، فلعل الله أن يدخل به ألفا في الإسلام " . وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله  ، فلما رأوه يطلب هذا القميص ويرجو أن ينفعه ، أسلم منهم يومئذ ألف ، فلما مات جاء ابنه يعرفه ، فقال عليه الصلاة والسلام لابنه : " صل عليه وادفنه " . فقال : إن لم تصل عليه يا رسول الله لم يصل عليه مسلم . فقام عليه الصلاة والسلام ليصلي عليه ، فقام عمر  فحال بين رسول الله وبين القبلة ؛ لئلا يصلي عليه ، فنزلت هذه الآية ، وأخذ جبريل  عليه السلام بثوبه وقال :( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا    )   . 
واعلم أن هذا يدل على منقبة عظيمة من مناقب عمر رضي الله عنه ؛ وذلك لأن الوحي نزل على وفق قوله في آيات كثيرة : 
منها آية أخذ الفداء عن أسارى بدر  ، وقد سبق شرحه . 
وثانيها : آية تحريم الخمر . 
وثالثها : آية تحويل القبلة . 
ورابعها : آية أمر النسوان بالحجاب . 
وخامسها : هذه الآية . فصار نزول الوحي على مطابقة قول عمر  رضي الله عنه  منصبا عاليا ودرجة رفيعة له في الدين ؛ فلهذا قال عليه الصلاة والسلام في حقه : " لو لم أبعث لبعثت يا عمر  نبيا   " . 
فإن قيل : كيف يجوز أن يقال : إن الرسول رغب في أن يصلي عليه بعد أن علم كونه كافرا وقد مات على كفره ، وأن صلاة الرسول عليه تجري مجرى الإجلال والتعظيم له ، وأيضا إذا صلى عليه فقد دعا له ، وذلك محظور ؛ لأنه تعالى أعلمه أنه لا يغفر للكفار البتة ، وأيضا دفع القميص إليه يوجب إعزازه ؟ 
والجواب : لعل السبب فيه أنه لما طلب من الرسول أن يرسل إليه قميصه الذي مس جلده ليدفن فيه ، غلب على ظن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه انتقل إلى الإيمان ؛ لأن ذلك الوقت وقت يتوب فيه الفاجر ويؤمن فيه الكافر ، فلما رأى منه إظهار الإسلام وشاهد منه هذه الأمارة التي دلت على دخوله في الإسلام ، غلب على ظنه أنه صار مسلما ، فبنى على هذا الظن ورغب في أن يصلي عليه ، فلما نزل جبريل  عليه السلام وأخبره بأنه مات على كفره ونفاقه ، امتنع من الصلاة عليه . وأما دفع القميص إليه فذكروا فيه وجوها : 
الأول : أن العباس  عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذ أسيرا ببدر  ، لم يجدوا له قميصا ، وكان رجلا طويلا ، فكساه عبد الله   [ ص: 122 ] قميصه . 
الثاني : أن المشركين قالوا له يوم الحديبية    : إنا لا ننقاد لمحمد  ، ولكنا ننقاد لك ، فقال : لا ، إن لي في رسول الله أسوة حسنة . فشكر رسول الله له ذلك . 
والثالث : أن الله تعالى أمره أن لا يرد سائلا بقوله :( وأما السائل فلا تنهر    ) [ الضحى : 10 ] . فلما طلب القميص منه دفعه إليه لهذا المعنى . 
الرابع : أن منع القميص لا يليق بأهل الكرم . 
الخامس : أن ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي  كان من الصالحين ، وأن الرسول أكرمه لمكان ابنه . 
السادس : لعل الله تعالى أوحى إليه أنك إذا دفعت قميصك إليه صار ذلك حاملا لألف نفر من المنافقين في الدخول في الإسلام ففعل ذلك لهذا الغرض ، وروي أنهم لما شاهدوا ذلك أسلم ألف من المنافقين . 
السابع : أن الرحمة والرأفة كانت غالبة عليه  كما قال :( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين    ) [ الأنبياء : 107 ] . وقال :( فبما رحمة من الله لنت لهم    ) [ آل عمران : 159 ] . فامتنع من الصلاة عليه رعاية لأمر الله تعالى ، ودفع إليه القميص لإظهار الرحمة والرأفة . 
إذا عرفت هذا فنقول : قوله :( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا    ) قال الواحدي    : " مات " في موضع جر ؛ لأنه صفة للنكرة ، كأنه قيل : على أحد منهم ميت . وقوله :( أبدا    ) متعلق بقوله :( أحد    ) والتقدير : ولا تصل أبدا على أحد منهم . واعلم أن قوله : ولا تصل أبدا يحتمل تأييد النفي ويحتمل تأييد المنفي ، والمقصود هو الأول ؛ لأن قرائن هذه الآيات دالة على أن المقصود منعه من أن يصلي على أحد منهم منعا كليا دائما . 
ثم قال تعالى :( ولا تقم على قبره    ) وفيه وجهان : 
الأول : قال الزجاج    : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له  ، فمنع ههنا منه . 
الثاني : قال الكلبي    : لا تقم بإصلاح مهمات قبره ، وهو من قولهم : قام فلان بأمر فلان إذا كفاه أمره وتولاه . ثم إنه تعالى علل المنع من الصلاة عليه والقيام على قبره بقوله :( إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون    ) وفيه سؤالات : 
السؤال الأول : الفسق أدنى حالا من الكفر ، ولما ذكر في تعليل هذا النهي كونه كافرا فما الفائدة في وصفه بعد ذلك بكونه فاسقا ؟ 
والجواب : أن الكافر قد يكون عدلا في دينه ، وقد يكون فاسقا في دينه خبيثا ممقوتا عند قومه ، والكذب والنفاق والخداع والمكر والكيد أمر مستقبح في جميع الأديان  ، فالمنافقون لما كانوا موصوفين بهذه الصفات وصفهم الله تعالى بالفسق بعد أن وصفهم بالكفر ؛ تنبيها على أن طريقة النفاق طريقة مذمومة عند كل أهل العالم    . 
السؤال الثاني : أليس أن المنافق يصلى عليه إذا أظهر الإيمان مع قيام الكفر فيه  ؟ . 
والجواب : أن التكاليف مبنية على الظاهر ، قال عليه الصلاة والسلام : " نحن نحكم بالظاهر ، والله تعالى يتولى السرائر   " . 
السؤال الثالث : قوله :( ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله    ) تصريح بكون ذلك النهي معللا بهذه العلة ، وذلك يقتضي تعليل حكم الله تعالى ، وهو محال ؛ لأن حكم الله قديم ، وهذه العلة محدثة ، وتعليل القديم بالمحدث محال . 
والجواب : الكلام في أن تعليل حكم الله تعالى بالمصالح هل يجوز أم لا ، بحث طويل ، ولا شك أن هذا الظاهر يدل عليه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					