قال :( ثم تاب عليهم    ) وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : اعلم أنه لا بد ههنا من إضمار . والتقدير : حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ، تاب عليهم ثم تاب عليهم ، فما الفائدة في هذا التكرير ؟ 
قلنا : هذا التكرير حسن للتأكيد كما أن السلطان إذا أراد أن يبالغ في تقرير العفو لبعض عبيده يقول عفوت عنك ثم عفوت عنك . 
فإن قيل : فما معنى قوله :( ثم تاب عليهم ليتوبوا    ) ؟ 
قلنا فيه وجوه : 
الأول : قال أصحابنا : المقصود منه بيان أن فعل العبد مخلوق لله تعالى  فقوله :( ثم تاب عليهم    ) يدل على أن التوبة فعل الله وقوله :( ليتوبوا ) يدل على أنها فعل العبد ، فهذا صريح قولنا ، ونظيره( فليضحكوا ) مع قوله :( وأنه هو أضحك وأبكى    ) [ النجم : 43 ] وقوله :( كما أخرجك ربك    ) [ الأنفال : 5 ] مع قوله :( إذ أخرجه الذين كفروا    ) [ التوبة : 40 ] وقوله :( هو الذي يسيركم    ) [ يونس : 22 ] مع قوله :( قل سيروا    ) [ النمل : 69 ] . 
والثاني : المراد تاب الله عليهم في الماضي ليكون ذلك داعيا لهم إلى التوبة في المستقبل . 
والثالث : أصل التوبة  الرجوع ، فالمراد ثم تاب عليهم ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين وزوال المباينة فتسكن نفوسهم عند ذلك . 
الرابع :( تاب عليهم ليتوبوا    ) أي ليدوموا على التوبة ، ولا يراجعوا ما يبطلها . 
الخامس :( ثم تاب عليهم    ) لينتفعوا بالتوبة ويتوفر عليهم ثوابها وهذان النفعان لا يحصلان إلا بعد توبة الله عليهم . المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن قبول التوبة غير واجب على الله عقلا  ، قالوا : لأن شرائط التوبة في حق هؤلاء قد حصلت من أول الأمر ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام ما قبلهم ولم يلتفت إليهم وتركهم مدة خمسين يوما أو أكثر ، ولو كان قبول التوبة واجبا عقلا ، لما جاز ذلك . 
أجاب الجبائي  عنه بأن قال : يقال إن تلك التوبة صارت مقبولة من أول الأمر ، لكنه يقال : أراد تشديد التكليف عليهم لئلا يتجرأ أحد على التخلف عن الرسول فيما يأمر به من جهاد وغيره . وأيضا لم يكن نهيه عليه الصلاة والسلام عن كلامهم عقوبة ، بل كان على سبيل التشديد في التكليف . قال القاضي : وإنما خص الرسول - عليه الصلاة والسلام - هؤلاء الثلاثة بهذا التشديد ؛ لأنهم أذعنوا بالحق واعترفوا بالذنب ، فالذي يجري عليهم وهذه حالهم في الزجر أبلغ مما يجري على من يظهر العذر من المنافقين . 
والجواب : أنا متمسكون بظاهر قوله تعالى :( ثم تاب عليهم    ) وكلمة ( ثم ) للتراخي ، فمقتضى هذا اللفظ تأخير قبول التوبة ، فإن حملتم ذلك على تأخير إظهار هذا القبول كان ذلك عدولا عن الظاهر من غير دليل . 
 [ ص: 175 ] فإن قالوا : الموجب لهذا العدول قوله تعالى :( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده    ) [ الشورى : 25 ] . 
قلنا : صيغة يقبل للمستقبل ، وهو لا يفيد الفور أصلا بالإجماع ، ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله :( إن الله هو التواب الرحيم    ) . 
واعلم أن ذكر الرحيم عقيب ذكر التواب ، يدل على أن قبول التوبة لأجل محض الرحمة والكرم ، لا لأجل الوجوب ، وذلك يقوي قولنا في أنه لا يجب عقلا على الله قبول التوبة . 
				
						
						
