( وقل إني أنا النذير المبين  كما أنزلنا على المقتسمين  الذين جعلوا القرآن عضين    ) . 
قوله تعالى : ( وقل إني أنا النذير المبين   كما أنزلنا على المقتسمين  الذين جعلوا القرآن عضين    ) 
اعلم أنه تعالى لما أمر رسوله بالزهد في الدنيا ، وخفض الجناح للمؤمنين ، أمره بأن يقول للقوم : ( إني    )   [ ص: 168 ]   ( أنا النذير المبين    ) فيدخل تحت كونه نذيرا ، كونه مبلغا لجميع التكاليف ; لأن كل ما كان واجبا ترتب على تركه عقاب ، وكل ما كان حراما ترتب على فعله عقاب فكان الإخبار بحصول هذا العقاب داخلا تحت لفظ النذير ، ويدخل تحته أيضا كونه شارحا لمراتب الثواب والعقاب والجنة والنار ، ثم أردفه بكونه مبينا ، ومعناه كونه آتيا في كل ذلك بالبيانات الشافية والبينات الوافية ، ثم قال بعده : ( كما أنزلنا على المقتسمين    ) وفيه بحثان : 
البحث الأول : اختلفوا في أن المقتسمين من هم  ؟ وفيه أقوال : 
القول الأول : قال  ابن عباس    : هم الذين اقتسموا طرق مكة  يصدون الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقرب عددهم من أربعين . وقال مقاتل بن سليمان    : كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة  أيام الموسم ، فاقتسموا عقبات مكة  وطرقها يقولون لمن يسلكها : لا تغتروا بالخارج منا ، والمدعي للنبوة فإنه مجنون ، وكانوا ينفرون الناس عنه بأنه ساحر أو كاهن أو شاعر ، فأنزل الله تعالى بهم خزيا فماتوا شر ميتة ، والمعنى : أنذرتكم مثل ما نزل بالمقتسمين . 
والقول الثاني : وهو قول  ابن عباس  رضي الله عنهما في بعض الروايات أن المقتسمين هم اليهود  والنصارى  ، واختلفوا في أن الله تعالى لم سماهم مقتسمين ؟ فقيل : لأنهم جعلوا القرآن عضين آمنوا بما وافق التوراة وكفروا بالباقي . وقال عكرمة    : لأنهم اقتسموا القرآن استهزاء به ، فقال بعضهم : سورة كذا لي . وقال بعضهم : سورة كذا لي . وقال  مقاتل بن حبان    : اقتسموا القرآن ، فقال بعضهم : سحر ، وقال بعضهم : شعر ، وقال بعضهم : كذب ، وقال بعضهم : أساطير الأولين   . 
والقول الثالث : في تفسير المقتسمين . قال ابن زيد    : هم قوم صالح  تقاسموا لنبيتنه وأهله ، فرمتهم الملائكة بالحجارة حتى قتلوهم ، فعلى هذا والاقتسام من القسم لا من القسمة ، وهو اختيار  ابن قتيبة    . 
البحث الثالث : أن قوله : ( كما أنزلنا على المقتسمين    ) يقتضي تشبيه شيء بذلك فما ذلك الشيء ؟  
والجواب عنه من وجهين : 
الوجه الأول : التقدير : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم كما أنزلنا على أهل الكتاب  ، وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين ، حيث قالوا بعنادهم وجهلهم : بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل ، وبعضه باطل مخالف لهما فاقتسموه إلى حق وباطل . 
فإن قيل : فعلى هذا القول كيف توسط بين المشبه والمشبه به قوله : ( لا تمدن عينيك    ) إلى آخره ؟  
قلنا : لما كان ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم وعداوتهم ، اعترض بما هو مدار لمعنى التسلية من النهي عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم . 
والوجه الثاني : أن يتعلق هذا الكلام بقوله : ( وقل إني أنا النذير المبين    ) . 
واعلم أن هذا الوجه لا يتم إلا بأحد أمرين : إما التزام إضمار أو التزام حذف ، أما الإضمار فهو أن يكون التقدير إني أنا النذير المبين عذابا كما أنزلناه على المقتسمين ، وعلى هذا الوجه ، المفعول محذوف وهو المشبه ، ودل عليه المشبه به ، وهذا كما تقول : رأيت كالقمر في الحسن ، أي : رأيت إنسانا كالقمر في   [ ص: 169 ] الحسن ، وأما الحذف فهو أن يقال : الكاف زائدة محذوفة ، والتقدير : إني أنا النذير المبين ما أنزلناه على المقتسمين ، وزيادة الكاف له نظير وهو قوله تعالى : ( ليس كمثله شيء    ) [الشورى : 11] والتقدير : ليس مثله شيء ، وقال بعضهم : لا حاجة إلى الإضمار والحذف ، والتقدير : إني أنا النذير أي : أنذر قريشا  مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين وقوله : ( الذين جعلوا القرآن عضين     ) فيه بحثان : 
البحث الأول : في هذا اللفظ قولان : 
الأول : أنه صفة للمقتسمين . 
والثاني : أنه مبتدأ ، وخبره هو قوله : ( لنسألنهم    ) وهو قول ابن زيد    . 
البحث الثاني : ذكر أهل اللغة في واحد عضين  قولين : 
القول الأول : أن واحدها عضة مثل عزة وبرة وثبة ، وأصلها عضوة من عضيت الشيء إذا فرقته ، وكل قطعة عضة ، وهي مما نقص منها واو هي لام الفعل ، والتعضية التجزئة والتفريق ، يقال : عضيت الجزور والشاة تعضية إذا جعلتها أعضاء وقسمتها ، وفي الحديث :   "لا تعضية في ميراث إلا فيما احتمل القسمة" أي : لا تجزئة فيما لا يحتمل القسمة كالجوهرة والسيف . فقوله : ( جعلوا القرآن عضين    ) يريد جزؤه أجزاء ، فقالوا : سحر وشعر وأساطير الأولين ومفترى . 
والقول الثاني : أن واحدها عضة وأصلها عضهة ، فاستثقلوا الجمع بين هاءين ، فقالوا : عضة كما قالوا شفة ، والأصل شفهة بدليل قولهم : شافهت مشافهة ، وسنة وأصلها سنهة في بعض الأقوال ، وهو مأخوذ من العضة بمعنى الكذب ، ومنه الحديث :   "إياكم والعضة" وقال  ابن السكيت    : العضة بأن يعضه الإنسان ، ويقول فيه ما ليس فيه . وهذا قول الخليل  فيما روى الليث  عنه ، فعلى هذا القول معنى قوله تعالى : ( جعلوا القرآن عضين    ) أي : جعلوه مفترى . وجمعت العضة جمع ما يعقل لما لحقها من الحذف ، فجعل الجمع بالواو والنون عوضا مما لحقها من الحذف . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					