النوع الثاني : من المدائح المذكورة في هذه الآية قوله : ( وحملناهم في البر والبحر    ) قال  ابن عباس    : في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل ، وفي البحر على السفن ، وهذا أيضا من مؤكدات التكريم المذكور أولا ، لأنه تعالى سخر هذه الدواب له حتى يركبها ويحمل عليها ويغزو ويقاتل ويذب عن نفسه ، وكذلك تسخير الله تعالى المياه والسفن وغيرها ليركبها وينقل عليها ويتكسب بها مما يختص به ابن آدم   ، كل ذلك مما يدل على أن الإنسان في هذا العالم كالرئيس المتبوع والملك المطاع ، وكل ما سواه فهو رعيته وتبع له . 
النوع الثالث : من المدائح قوله : ( ورزقناهم من الطيبات    ) وذلك لأن الأغذية إما حيوانية وإما نباتية ، وكلا القسمين إنما يتغذى الإنسان منه بألطف أنواعها وأشرف أقسامها بعد التنقية التامة والطبخ الكامل والنضج البالغ ، وذلك مما لا يحصل إلا للإنسان . 
النوع الرابع : قوله : ( وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا    ) وههنا بحثان : 
البحث الأول : أنه قال في أول الآية : ( ولقد كرمنا بني آدم    ) وقال في آخرها : ( وفضلناهم    ) ولا بد من الفرق بين هذا التكريم والتفضيل وإلا لزم التكرار ، والأقرب أن يقال : إنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية  مثل العقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة ، ثم إنه تعالى عرضه بواسطة ذلك العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة ، فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل . 
البحث الثاني : أنه تعالى لم يقل : وفضلناهم على الكل بل قال :   [ ص: 14 ]   ( وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا    ) فهذا يدل على أنه حصل في مخلوقات الله تعالى شيء لا يكون الإنسان مفضلا عليه ، وكل من أثبت هذا القسم قال : إنه هو الملائكة ، فلزم القول بأن الإنسان ليس أفضل من الملائكة بل الملك أفضل من الإنسان  ، وهذا القول مذهب  ابن عباس  واختيار الزجاج  على ما رواه الواحدي  في البسيط . واعلم أن هذا الكلام مشتمل على بحثين : 
البحث الأول : أن الأنبياء عليهم السلام أفضل أم الملائكة  ؟ وقد سبق ذكر هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم    ) ( البقرة : 34 ) . 
والبحث الثاني : أن عوام الملائكة وعوام المؤمنين أيهما أفضل ؟ منهم من قال بتفضيل المؤمنين على الملائكة ، واحتجوا عليه بما روي عن  زيد بن أسلم  أنه قال : قالت الملائكة ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويتنعمون ولم تعطنا ذلك فأعطنا ذاك في الآخرة ، فقال : وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان   . وقال  أبو هريرة    - رضي الله عنه - : المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده ، هكذا أورده الواحدي  في "البسيط" ، وأما القائلون بأن الملك أفضل من البشر على الإطلاق فقد عولوا على هذه الآية ، وهو في الحقيقة تمسك بدليل الخطاب لأن تقرير الدليل أن يقال : إن تخصيص الكثير بالذكر يدل على أن الحال في القليل بالضد ، وذلك تمسك بدليل الخطاب والله أعلم . 
				
						
						
