أما قوله تعالى : ( قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم    ) ففيه مسائل : 
المسألة الأولى : قال أبو مسلم الأصفهاني  في تفسير قوله تعالى : ( قلنا يانار كوني بردا    ) المعنى أنه سبحانه جعل النار بردا وسلاما ، لا أن هناك كلاما كقوله : ( أن يقول له كن فيكون    ) أي يكونه ، وقد احتج عليه بأن النار جماد فلا يجوز خطابه ، والأكثرون على أنه وجد ذلك القول . ثم هؤلاء لهم قولان ؛ أحدهما : وهو قول السدي    : أن القائل هو جبريل  عليه السلام . والثاني : وهو قول الأكثرين أن القائل هو الله تعالى ، وهذا هو الأليق الأقرب بالظاهر ، وقوله : النار جماد فلا يكون في خطابها فائدة ، قلنا : لم لا يجوز أن يكون المقصود من ذلك الأمر مصلحة عائدة إلى الملائكة؟ . 
المسألة الثانية : اختلفوا في أن النار كيف بردت على ثلاثة أقوال ؛ أحدها : أن الله تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والإحراق ، وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق ، والله على كل شيء قدير . وثانيها : أن الله تعالى خلق في جسم إبراهيم  كيفية مانعة من وصول أذى النار إليه ، كما يفعل بخزنة جهنم في الآخرة ، وكما أنه ركب بنية النعامة بحيث لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة ، وبدن السمندل بحيث لا يضره المكث في النار . وثالثها : أنه سبحانه خلق بينه وبين النار حائلا يمنع من وصول أثر النار إليه ، قال المحققون : والأول أولى ؛ لأن   [ ص: 164 ] ظاهر قوله : ( قلنا يانار كوني بردا    ) أن نفس النار صارت باردة حتى سلم إبراهيم  من تأثيرها  ، لا أن النار بقيت كما كانت ، فإن قيل : النار جسم موصوف بالحرارة واللطافة ، فإذا كانت الحرارة جزءا من مسمى النار امتنع كون النار باردة ، فإذا وجب أن يقال : المراد من النار الجسم الذي هو أحد أجزاء مسمى النار ، وذلك مجاز فلم كان مجازكم أولى من المجازين الآخرين ؟ قلنا : المجاز الذي ذكرناه يبقى معه حصول البرد ، وفي المجازين اللذين ذكرتموهما لا يبقى ذلك ، فكان مجازنا أولى . 
أما قوله تعالى : ( كوني بردا وسلاما على إبراهيم    ) فالمعنى أن البرد إذا أفرط أهلك كالحر ، بل لا بد من الاعتدال ، ثم في حصول الاعتدال ثلاثة أوجه : 
أحدها : أنه يقدر الله تعالى بردها بالمقدار الذي لا يؤثر . 
وثانيها : أن بعض النار صار بردا وبقي بعضها على حرارته ، فتعادل الحر والبرد . 
وثالثها : أنه تعالى جعل في جسمه مزيد حر فسلم من ذلك البرد ، بل قد انتفع به والتذ ، ثم هاهنا سؤالات : 
السؤال الأول : أوكل النار زالت وصارت بردا ؟ الجواب : أن النار هو اسم الماهية ، فلا بد وأن يحصل هذا البرد في الماهية ، ويلزم منه عمومه في كل أفراد الماهية ، وقيل : بل اختص بتلك النار ؛ لأن الغرض إنما تعلق ببرد تلك النار ، وفي النار منافع للخلق ، فلا يجوز تعطيلها  ، والمراد خلاص إبراهيم  عليه السلام لا إيصال الضرر إلى سائر الخلق . 
السؤال الثاني : هل يجوز ما روي عن الحسن  من أنه سلام من الله تعالى على إبراهيم  عليه السلام ؟ الجواب الظاهر كما أنه جعل النار بردا جعلها سلاما عليه حتى يخلص ، فالذي قاله يبعد ، وفيه تشتيت الكلام المرتب . 
السؤال الثالث : أفيجوز ما روي من أنه لو لم يقل : وسلاما لأتى البرد عليه ؟ والجواب : ذلك بعيد ؛ لأن برد النار لم يحصل منها ، وإنما حصل من جهة الله تعالى فهو القادر على الحر والبرد ، فلا يجوز أن يقال : كان البرد يعظم لولا قوله سلاما . 
السؤال الرابع : أفيجوز ما قيل من أنه كان في النار أنعم عيشا منه في سائر أحواله  ؟ والجواب : لا يمتنع ذلك لما فيه من مزيد النعمة عليه وكمالها ، ويجوز أن يكون إنما صار أنعم عيشا هناك لعظم ما ناله من السرور بخلاصه من ذلك الأمر العظيم ، ولعظم سروره بظفره بأعدائه وبما أظهره من دين الله تعالى . 
أما قوله تعالى : ( وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين    ) أي أرادوا أن يكيدوه فما كانوا إلا مغلوبين ، غالبوه بالجدال فلقنه الله تعالى الحجة المبكتة ، ثم عدلوا القوة والجبروت فنصره وقواه عليهم ، ثم إنه سبحانه أتم النعمة عليه بأن نجاه ونجى لوطا  معه ، وهو ابن أخيه ، وهو لوط بن هاران  إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين . وفي الأخبار أن هذه الواقعة كانت في حدود بابل  فنجاه الله تعالى من تلك البقعة إلى الأرض المباركة ، ثم قيل : إنها مكة  ، وقيل أرض الشام  لقوله تعالى : ( إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله    ) [ الإسراء : 1 ] والسبب في بركتها ، أما في الدين فلأن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا منها ، وانتشرت شرائعهم وآثارهم الدينية فيها ، وأما في الدنيا فلأن الله تعالى بارك فيها بكثرة الماء والشجر والثمر والخصب وطيب العيش ، وقيل : ما من ماء عذب إلا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس    . 
				
						
						
