المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : قرئ "يا حسرتى " على الأصل و " يا حسرتاي " على الجمع بين العوض والمعوض عنه . 
أما قوله تعالى : ( وإن كنت لمن الساخرين    ) أي أنه ما كان مكتفيا بذلك التقصير بل كان من المستهزئين بالدين ، قال قتادة    : لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها ، ومحل "وإن كنت" نصب على الحالة ، كأنه قال : ( فرطت في جنب الله    ) وأنا ساخر ، أي فرطت في حال سخريتي . 
النوع الثاني من الكلمات التي حكاها الله تعالى عن أهل العذاب أنهم يذكرونه بعد نزول العذاب عليهم ، قوله : ( أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين    ) . 
النوع الثالث : قوله ( أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين    ) وحاصل الكلام أن هذا المقصر أتى بثلاثة أشياء ; أولها : الحسرة على التفريط في الطاعة . وثانيها : التعلل بفقد الهداية . وثالثها : بتمني الرجعة ، ثم أجاب الله تعالى عن كلامهم بأن قال : التعلل بفقد الهداية باطل ; لأن الهداية كانت حاضرة والأعذار زائلة ، وهو المراد بقوله : ( بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين    ) وههنا مسائل : 
المسألة الأولى : قال الزجاج    : ( بلى    ) جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي إلا أنه حصل فيه معنى النفي ; لأن معنى قوله : ( لو أن الله هداني    ) أنه ما هداني ، فلا جرم حسن ذكر لفظة "بلى" بعده . 
المسألة الثانية : قال الواحدي  رحمه الله : القراءة المشهورة واقعة على التذكير في قوله : ( بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين    ) لأن النفس تقع على الذكر والأنثى فخوطب بالذكر ، وروى  الربيع بن أنس  عن  أم سلمة  أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ على التأنيث ، قال أبو عبيد    : لو صح هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لكان حجة لا يجوز لأحد تركها ، ولكنه ليس بمسند ; لأن الربيع  لم يدرك  أم سلمة  ، وأما وجه التأنيث فهو أنه ذكر النفس ، ولفظ النفس ورد في القرآن في أكثر الأمر على التأنيث بقوله : ( سولت لي نفسي    ) [طه : 96] و ( إن النفس لأمارة بالسوء    ) [يوسف : 53] ، ( ياأيتها النفس المطمئنة    ) [الفجر : 27] . 
المسألة الثالثة : قال القاضي : هذه الآيات دالة على صحة القول بالقدر  من وجوه : 
الأول : أنه لا يقال : فلان أسرف على نفسه ، على وجه الذم ، إلا لما يكون من قبله ، وذلك يدل على أن أفعال العباد تحصل من قبلهم لا من قبل الله تعالى . 
وثانيها : أن طلب الغفران والرجاء في ذلك أو اليأس لا يحسن إلا إذا كان الفعل فعل العبد . 
وثالثها : إضافة الإنابة والإسلام إليه من قبل أن يأتيه العذاب ، وذلك لا يكون إلا مع تمكنه من محاولتهما مع نزول العذاب ، ومذهبهم أن الكافر لم يتمكن قط من ذلك . 
ورابعها : قوله تعالى : ( واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم    ) وذلك لا يتم إلا بما هو المختار للاتباع . 
وخامسها : ذمه لهم على أنهم لا يشعرون بما يوجب العذاب ، وذلك لا يصح إلا مع التمكن من الفعل . 
وسادسها : قولهم : ( ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله    ) ولا يتحسر المرء على أمر سبق منه إلا وكان يصح منه أن يفعله . 
وسابعها : قوله تعالى : ( على ما فرطت في جنب الله    ) ومن لا يقدر على الإيمان - كما يقول القوم - ولا يكون الإيمان من فعله لا يكون   [ ص: 8 ] مفرطا . 
وثامنها : ذمه لهم بأنهم من الساخرين ، وذلك لا يتم إلا أن تكون السخرية فعلهم ، وكان يصح منهم أن لا يفعلوه . 
وتاسعها : قوله : ( لو أن الله هداني    ) أي مكنني ( لكنت من المتقين    ) وعلى هذا قولهم : إذا لم يقدر على التقوى فكيف يصح ذلك منه؟ 
وعاشرها : قوله : ( لو أن لي كرة فأكون من المحسنين    ) وعلى قولهم : لو رده الله أبدا كرة بعد كرة وليس فيه إلا قدرة الكفر ، لم يصح أن يكون محسنا . 
والحادي عشر : قوله تعالى موبخا لهم : ( بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين     ) فبين تعالى أن الحجة عليهم لله لا أن الحجة لهم على الله ، ولو أن الأمر كما قالوا لكان لهم أن يقولوا : قد جاءتنا الآيات ولكنك خلقت فينا التكذيب بها ولم تقدرنا على التصديق بها . 
والثاني عشر : أنه تعالى وصفهم بالتكذيب والاستكبار والكفر ، على وجه الذم ، ولو لم تكن هذه الأشياء أفعالا لهم لما صح الكلام ، والجواب عنه أن هذه الوجوه معارضة ، بما أن القرآن مملوء من أن الله تعالى يضل ويمنع ويصدر منه اللين والقسوة والاستدراج ، ولما كان هذا التفسير مملوءا منه لم يكن إلى الإعادة حاجة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					