ثم قال : ( وقضي بينهم بالحق    ) والمعنى أنهم على درجات مختلفة ومراتب متفاوتة ، فلكل واحد منهم في درجات المعرفة والطاعة حد محدود لا يتجاوزه ولا يتعداه ، وهو المراد من قوله : ( وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين     ) أي الملائكة لما قضي بينهم بالحق قالوا : ( الحمد لله رب العالمين    ) على   [ ص: 22 ] قضائه بيننا بالحق ، وهاهنا دقيقة أعلى مما سبق وهي أنه سبحانه لما قضى بينهم بالحق ، فهم ما حمدوه لأجل ذلك القضاء ، بل حمدوه بصفته الواجبة وهي كونه ربا للعالمين ، فإن من حمد المنعم لأجل أن إنعامه وصل إليه فهو في الحقيقة ما حمد المنعم وإنما حمد الإنعام ، وأما من حمد المنعم لا لأنه وصل إليه النعمة فهاهنا قد وصل إلى لجة بحر التوحيد ، هذا إذا قلنا : إن قوله : ( وترى الملائكة حافين من حول العرش    ) شرح أحوال الملائكة في الثواب ، أما إذا قلنا : إنه من بقية شرح ثواب المؤمنين ، فتقريره أن يقال : إن المتقين لما قالوا : ( الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء    ) فقد ظهر منهم أنهم في الجنة اشتغلوا بحمد الله وبذكره بالمدح والثناء ، فبين تعالى أنه كما أن حرفة المتقين في الجنة الاشتغال بهذا التحميد والتمجيد  ، فكذلك حرفة الملائكة الذين هم حافون حول العرش الاشتغال بالتحميد والتسبيح  ، ثم إن جوانب العرش ملاصقة لجوانب الجنة ، وحينئذ يظهر منه أن المؤمنين المتقين وأن الملائكة المقربين يصيرون متوافقين على الاستغراق في تحميد الله وتسبيحه ، فكان ذلك سببا لمزيد التذاذهم بذلك التسبيح والتحميد . 
ثم قال : ( وقضي بينهم بالحق    ) أي بين البشر ، ثم قال : ( وقيل الحمد لله رب العالمين    ) والمعنى أنهم يقدمون التسبيح  ، والمراد منه تنزيه الله عن كل ما لا يليق بالإلهية . 
وأما قوله تعالى : ( وقيل الحمد لله رب العالمين    ) فالمراد وصفه بصفات الإلهية ، فالتسبيح عبارة عن الاعتراف بتنزيهه عن كل ما لا يليق به وهو صفات الجلال ، وقوله : ( وقيل الحمد لله رب العالمين    ) عبارة عن الإقرار بكونه موصوفا بصفات الإلهية وهي صفات الإكرام ، ومجموعهما هو المذكور في قوله : ( تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام    ) ] الرحمن : 78] وهو الذي كانت الملائكة يذكرونه قبل خلق العالم وهو قولهم : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك    ) وفي قوله : ( وقيل الحمد لله رب العالمين    ) دقيقة أخرى وهي أنه لم يبين أن ذلك القائل من هو ، والمقصود من هذا الإبهام التنبيه على أن خاتمة كلام العقلاء في الثناء على حضرة الجلال والكبرياء ليس إلا أن يقولوا : ( الحمد لله رب العالمين    ) وتأكد هذا بقوله تعالى في صفة أهل الجنة : ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين    ) [يونس : 10] . 
قال المصنف رحمه الله تعالى : تم تفسير هذه السورة في ليلة الثلاثاء آخر ذي القعدة من سنة ثلاث وستمائة . يقول مصنف هذا الكتاب : الملائكة المقربون عجزوا عن إحصاء ثنائك ، فمن أنا ؟ والأنبياء المرسلون اعترفوا بالعجز والقصور ، فمن أنا ؟ وليس معي إلا أن أقول : أنت أنت وأنا أنا ، فمنك الرحمة والفضل والجود والإحسان ، ومني العجز والذلة والخيبة والخسران ، يا رحمن يا ديان يا حنان يا منان أفض علي سجال الرحمة والغفران برحمتك يا أرحم الراحمين ، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وأصحابه وأزواجه أمهات المؤمنين ، وسلم تسليما كثيرا . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					