واعلم أنه ليس المراد من قوله ( لا حجة بيننا وبينكم    ) تحريم ما يجري مجرى محاجتهم ، ويدل عليه وجوه : 
الأول : أن هذا الكلام مذكور في معرض المحاجة ، فلو كان المقصود من هذه الآية تحريم المحاجة  ، لزم كونها محرمة لنفسها ، وهو متناقض . 
والثاني : أنه لولا الأدلة لما توجه التكليف . 
الثالث : أن الدليل يفيد العلم ، وذلك لا يمكن تحريمه ، بل المراد أن القوم عرفوا بالحجة صدق محمد  صلى الله عليه وسلم ، وإنما تركوا تصديقه بغيا وعنادا  ، فبين تعالى أنه قد حصل الاستغناء عن محاجتهم ؛ لأنهم عرفوا بالحجة صدقه ، فلا حاجة معهم إلى المحاجة البتة ، ومما يقوي قولنا : إنه لا يجوز تحريم المحاجة - قوله ( وجادلهم بالتي هي أحسن    ) [النحل : 125] ، وقوله ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن    ) [العنكبوت : 46] ، وقوله ( يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا    ) [هود : 32] ، وقوله ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه    ) [الأنعام : 83] . 
ثم قال تعالى : ( والذين يحاجون في الله    ) أي : يخاصمون في دينه ( من بعد ما استجيب له    ) أي من بعد ما استجاب الناس لذلك الدين ( حجتهم داحضة    ) أي باطلة ، وتلك المخاصمة هي أن اليهود  ، قالوا : ألستم تقولون : إن الأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف ؟ فنبوة موسى  وحقية التوراة معلومة بالاتفاق ، ونبوة محمد  ليست متفقا عليها ، فإذا بنيتم كلامكم في هذه الآية على أن الأخذ بالمتفق أولى - وجب أن يكون الأخذ باليهودية أولى ، فبين تعالى أن هذه الحجة داحضة ، أي باطلة فاسدة ، وذلك لأن اليهود  أطبقوا على أنه إنما وجب الإيمان بموسى    - عليه السلام - لأجل ظهور المعجزات على وفق قوله ، وههنا ظهرت المعجزات على وفق قول محمد  عليه السلام ، واليهود شاهدوا تلك المعجزات ، فإن كان ظهور المعجزة يدل على الصدق ، فههنا يجب الاعتراف بنبوة محمد  صلى الله عليه وسلم  ، وإن كان لا يدل على الصدق وجب في حق موسى  أن لا يقروا بنبوته . وأما الإقرار بنبوة موسى  والإصرار على إنكار نبوة محمد  مع استوائهما في ظهور المعجزة يكون متناقضا . ولما قرر الله هذه الدلائل خوف المنكرين بعذاب القيامة ، فقال : ( الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب    ) والمعنى : أنه تعالى أنزل الكتاب المشتمل على أنواع الدلائل والبينات ، وأنزل الميزان وهو الفصل الذي هو القسطاس المستقيم ، وأنهم لا يعلمون أن القيامة متى تفاجئهم . ومتى كان الأمر كذلك ، وجب على العاقل أن يجد ويجتهد في النظر والاستدلال ، ويترك طريقة أهل الجهل والتقليد ، ولما كان الرسول يهددهم بنزول القيامة ، وأكثر في ذلك ، وأنهم ما رأوا منه أثرا قالوا على سبيل السخرية : فمتى تقوم القيامة ، وليتها قامت حتى يظهر لنا أن الحق ما نحن عليه أو الذي عليه محمد  وأصحابه ، فلدفع هذه الشبهة قال تعالى : ( يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها    ) والمعنى ظاهر ، وإنما يشفقون ويخافون لعلمهم أن عندها تمتنع التوبة ، وأما منكر البعث فلأن لا يحصل له هذا الخوف . 
 [ ص: 138 ] ثم قال : ( ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد    ) والمماراة الملاجة ، قال الزجاج    : الذين تدخلهم المرية والشك في وقوع الساعة ، فيمارون فيها ويجحدون ( لفي ضلال بعيد    ) لأن استيفاء حق المظلوم من الظالم واجب في العدل ، فلو لم تحصل القيامة لزم إسناد الظلم إلى الله تعالى ، وهذا من أمحل المحالات ، فلا جرم كان إنكار القيامة ضلالا بعيدا . 
ثم قال : ( الله لطيف بعباده    ) أي كثير الإحسان بهم ، وإنما حسن ذكر هذا الكلام ههنا ؛ لأنه أنزل عليهم الكتاب المشتمل على هذه الدلائل اللطيفة ، فكان ذلك من لطف الله بعباده  ، وأيضا المتفرقون استوجبوا العذاب الشديد ، ثم إنه تعالى أخر عنهم ذلك العذاب ، فكان ذلك أيضا من لطف الله تعالى ، فلما سبق ذكر إيصال أعظم المنافع إليهم ودفع أعظم المضار عنهم ، لا جرم حسن ذكره ههنا ، ثم قال : ( يرزق من يشاء    ) يعني أن أصل الإحسان والبر عام في حق كل العباد ، وذلك هو الإحسان بالحياة والعقل والفهم ، وإعطاء ما لا بد منه من الرزق ، ودفع أكثر الآفات والبليات عنهم ، فأما مراتب العطية والبهجة فمتفاوتة مختلفة . 
ثم قال : ( وهو القوي    ) أي القادر على كل ما يشاء ( العزيز    ) الذي لا يغالب ولا يدافع . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					