[ ص: 130 ]   ( منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب    ) 
وقوله تعالى : ( منهم ) يصلح أن يكون مذكورا كالمقرر لتعجبهم ، ويصلح أن يكون مذكورا لإبطال تعجبهم ، أما التقرير فلأنهم كانوا يقولون : ( أبشرا منا واحدا نتبعه    ) [ القمر : 24 ] و ( قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا    ) [ يس : 15 ] إشارة إلى أنه كيف يجوز اختصاصكم بهذه المنزلة الرفيعة مع اشتراكنا في الحقيقة واللوازم ، وأما الإبطال فلأنه إذا كان واحدا منهم ويرى بين أظهرهم ، وظهر عليه ما عجز عنه كلهم ومن بعدهم كان يجب عليهم أن يقولوا : هذا ليس من عنده ولا من عند أحد من جنسنا ، فهو من عند الله ، بخلاف ما لو جاءهم واحد من خلاف جنسهم وأتى بما يعجزون عنه ، فإنهم كانوا يقولون : نحن لا نقدر لأن لكل نوع خاصية ، فإن خاصية النعامة بلع النار ، والطيور الطير في الهواء ، وابن آدم لا يقدر عليه ، فإن قيل : الإبطال جائز ؛ لأن قولهم كان باطلا ، ولكن تقرير الباطل كيف يجوز ، نقول : المبين لبطلان الكلام يجب أن يورده على أبلغ ما يمكن ويذكر فيه كل ما يتوهم أنه دليل عليه ثم يبطله ، فلذلك قال : عجبتم بسبب أنه منكم ، وهو في الحقيقة سبب لهذا التعجب ، فإن قيل : النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بشيرا ونذيرا  ، والله تعالى في جميع المواضع قدم كونه بشيرا على كونه نذيرا ، فلم لم يذكر : عجبوا أن جاءهم بشير منهم ؟ نقول : هو لما لم يتعين للبشارة موضعا كان في حقهم منذرا لا غير . 
ثم قال تعالى : ( فقال الكافرون هذا شيء عجيب     ) . 
قال  الزمخشري    : هذا تعجب آخر من أمر آخر وهو الحشر الذي أشار إليه بقوله : ( أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد    ) [ ق : 3 ] فعجبوا من كونه منذرا من وقوع الحشر ، ويدل عليه النظر في أول سورة ص حيث قال فيه : ( عجبوا أن جاءهم منذر    ) وقال : ( أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب    ) [ ص : 5 ] ذكر تعجبهم من أمرين ، والظاهر أن قولهم : ( هذا شيء عجيب    ) إشارة إلى مجيء المنذر لا إلى الحشر ، ويدل عليه وجوه : الأول : هو أن هناك ذكر ( إن هذا لشيء عجاب    ) [ ص : 5 ] بعد الاستفهام الإنكاري فقال : ( أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب    ) وقال ههنا : ( هذا شيء عجيب    ) ولم يكن ما يقع الإشارة إليه إلا مجيء المنذر . 
ثم قالوا : ( أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد    ) الثاني : ههنا وجد بعد الاستيعاد بالاستفهام أمر يؤدي معنى التعجب وهو قولهم : ( ذلك رجع بعيد    ) فإنه استبعاد وهو كالتعجب ، فلو كان التعجب أيضا عائدا إليه لكان كالتكرار ، فإن قيل : التكرار الصريح يلزم من جعل قولك : ( هذا شيء عجيب    ) عائدا إلى مجيء المنذر ، فإن تعجبهم منه علم من قوله : ( عجبوا أن جاءهم    ) فقوله : ( هذا شيء عجيب    ) يكون تكرارا ، نقول : ذلك ليس بتكرار بل هو تقرير ، وذلك لأنه لما قال : ( بل عجبوا    ) بصيغة الفعل ، وجاز أن يتعجب الإنسان مما لا يكون عجيبا كما قال تعالى : ( أتعجبين من أمر الله    ) [ هود : 73 ] ويقال في العرف : لا وجه لتعجبك ، مما ليس بعجب ، فكأنهم لما عجبوا قيل لهم : لا معنى لفعلكم وعجبكم ، فقالوا : ( هذا شيء عجيب    ) فكيف لا نعجب منه ، ويدل عليه أنه تعالى قال ههنا : ( فقال الكافرون    ) بحرف الفاء ، وقال في " ص " : ( وقال الكافرون هذا ساحر كذاب    ) [ ص : 4 ] لأن قولهم : ( ساحر كذاب    ) كان تعنتا غير مرتب على ما تقدم ، و ( هذا شيء عجيب    ) أمر مرتب على ما تقدم أي عجبوا وأنكروا عليه ذلك ، فقالوا : ( هذا شيء عجيب    ) فكيف لا نعجب منه ، ويدل   [ ص: 131 ] عليه أيضا قوله تعالى : ( ذلك رجع بعيد    ) بلفظ الإشارة إلى البعد ، وقوله هذا إشارة إلى الحاضر القريب ، فينبغي أن يكون المشار إليه بذلك غير المشار إليه بهذا ، وذلك لا يصح إلا على قولنا . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					