[ ص: 46 ]   ( سورة الملك ) 
ثلاثون آية مكية 
بسم الله الرحمن الرحيم ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير    ) ( سورة الملك    ) وتسمى المنجية ؛ لأنها تنجي قارئها من عذاب القبر ، وعن  ابن عباس  أنه كان يسميها المجادلة ؛ لأنها تجادل عن قارئها في القبر ، وهي ثلاثون آية مكية . 
بسم الله الرحمن الرحيم 
( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير    ) 
أما قوله : ( تبارك    ) فقد فسرناه في أول سورة الفرقان ، وأما قوله : ( بيده الملك    ) فاعلم أن هذه اللفظة إنما تستعمل لتأكيد كونه تعالى ملكا ومالكا ، كما يقال : بيد فلان الأمر والنهي والحل والعقد ولا مدخل للجارحة في ذلك . قال صاحب "الكشاف" : بيده الملك على كل موجود ، وهو على كل ما لم يوجد من الممكنات قدير ، وقوله : ( وهو على كل شيء قدير    ) فيه مسائل : 
المسألة الأولى : هذه الآية احتج بها من زعم أن المعدوم شيء ، فقال : قوله ( وهو على كل شيء قدير    ) يقتضي كون مقدوره شيئا ، فذلك الشيء الذي هو مقدور الله تعالى ، إما أن يكون موجودا أو معدوما ، لا جائز أن يكون موجودا ، لأنه لو كان قادرا على الموجود ، لكان إما أن يكون قادرا على إيجاده وهو محال ؛ لأن إيجاد الموجود محال ، وإما أن يكون قادرا على إعدامه وهو محال ، لاستحالة وقوع الإعدام بالفاعل ، وذلك لأن القدرة صفة مؤثرة فلا بد لها من تأثير ، والعدم نفي محض ، فيستحيل جعل العدم أثر القدرة ، فيستحيل وقوع الإعدام بالفاعل فثبت أن الشيء الذي هو مقدور الله ليس بموجود ، فوجب أن يكون معدوما ، فلزم أن يكون ذلك المعدوم شيئا ، واحتج أصحابنا النافون لكون المعدوم شيئا بهذه الآية ، فقالوا : لا شك أن الجوهر من حيث إنه جوهر شيء ، والسواد من حيث هو سواد شيء ، والله قادر على كل شيء . فبمقتضى هذه الآية يلزم أن يكون قادرا على الجوهر من حيث إنه جوهر ، وعلى السواد من حيث هو سواد ، وإذا كان   [ ص: 47 ] كذلك كان كون الجوهر جوهرا ، والسواد سوادا واقعا بالفاعل ، والفاعل المختار لا بد وأن يكون متقدما على فعله ، فإذا وجود الله وذاته متقدم على كون الجوهر جوهرا ، أو السواد سوادا ، فيلزم أن لا يكون المعدوم شيئا وهو المطلوب ، ثم أجابوا عن شبهة الخصم بأنا لا نسلم أن الإعدام لا يقع بالفاعل ، ولئن سلمنا ذلك ، لكن لم يجوز أن يقال : المقدور الذي هو معدوم سمي شيئا ؛ لأجل أنه سيصير شيئا ؟ وهذا وإن كان مجازا إلا أنه يجب المصير إليه ؛ لقيام سائر الدلائل الدالة على أن المعدوم ليس بشيء . 
المسألة الثانية : زعم القاضي أبو بكر  في أحد قوليه أن إعدام الأجسام إنما يقع بالفاعل ، وهذا اختيار أبي الحسن الخياط  من المعتزلة  ، ومحمود الخوارزمي  ، وزعم الجمهور منا ومن المعتزلة  أنه يستحيل وقوع الإعدام بالفاعل ، احتج القاضي بأن الموجودات أشياء ، والله على كل شيء قدير ، فهو إذا قادر على الموجودات ، فإما أن يكون قادرا على إيجادها وهو محال ؛ لأن إيجاد الموجود محال ، أو على إعدامها ، وذلك يقتضي إمكان وقوع الإعدام بالفاعل . 
المسألة الثالثة : زعم الكعبي  أنه تعالى غير قادر على مثل مقدور العبد ، وزعم أبو علي  وأبو هاشم  أنه تعالى غير قادر على مقدور العبد ، وقال أصحابنا : إنه تعالى قادر على مثل مقدور العبد وعلى غير مقدوره ، واحتجوا عليه بأن عين مقدور العبد ومثل مقدوره شيء ، والله على كل شيء قدير ، فثبت بهذا صحة وجود مقدور واحد بين قادرين . 
المسألة الرابعة : زعم أصحابنا أنه لا مؤثر إلا قدرة الله تعالى ، وأبطلوا القول بالطبائع على ما يقوله الفلاسفة ، وأبطلوا القول بالمتولدات على ما يقوله المعتزلة  ، وأبطلوا القول بكون العبد موجدا لأفعال نفسه ، واحتجوا على الكل بأن الآية دالة على أنه تعالى قادر على كل شيء  ، فلو وقع شيء من الممكنات لا بقدرة الله بل بشيء آخر ، لكان ذلك الآخر قد منع قدرة الله عن التأثير فيما كان مقدورا له وذلك محال ؛ لأن ما سوى الله ممكن محدث ، فيكون أضعف قوة من قدرة الله ، والأضعف لا يمكن أن يدفع الأقوى . 
المسألة الخامسة : هذه الآية دالة على أن الإله تعالى واحد  ؛ لأنا لو قدرنا إلها ثانيا ، فإما أن يقدر على إيجاد شيء أو لا يقدر ، فإن لم يقدر ألبتة على إيجاد شيء أصلا لم يكن إلها ، وإن قدر كان مقدور ذلك الإله الثاني شيئا ، فيلزم كونه مقدورا للإله الأول ؛ لقوله : ( وهو على كل شيء قدير    ) فيلزم وقوع مخلوق بين خالقين وهو محال ؛ لأنه إذا كان واحد منهما مستقلا بالإيجاد ، يلزم أن يستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما ، فيكون محتاجا إليهما ، وغنيا عنهما ، وذلك محال . 
المسألة السادسة : احتج جهم  بهذه الآية على أنه تعالى ليس بشيء فقال : لو كان شيئا لكان قادرا على نفسه لقوله : ( وهو على كل شيء قدير    ) لكن كونه قادرا على نفسه محال ، فيمتنع كونه شيئا ، وقال أصحابنا : لما دل قوله : ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد    ) ( الأنعام : 19 ) على أنه تعالى شيء وجب تخصيص هذا العموم ، فإذا هذه الآية قد دلت على أن العام المخصوص وارد في كتاب الله تعالى ، ودلت على أن تخصيص العام بدليل العقل جائز بل واقع . 
المسألة السابعة : زعم جمهور المعتزلة  أن الله تعالى قادر على خلق الكذب والجهل والعبث والظلم ،   [ ص: 48 ] وزعم النظام أنه غير قادر عليه ، واحتج الجمهور بأن الجهل والكذب أشياء ( والله على كل شيء قدير    ) فوجب كونه تعالى قادرا عليها . 
المسألة الثامنة : احتج أهل التوحيد على أنه تعالى منزه عن الحيز والجهة ، فإنه تعالى لو حصل في حيز دون حيز لكان ذلك الحيز الذي حكم بحصوله فيه متميزا عن الحيز الذي حكم بأنه غير حاصل فيه ؛ إذ لو لم يتميز أحد الحيزين عن الآخر لاستحال الحكم بأنه تعالى حصل فيه ولم يحصل في الآخر ، ثم إن امتياز أحد الحيزين عن الآخر في نفسه يقتضي كون الحيز أمرا موجودا ؛ لأن العدم المحض يمتنع أن يكون مشارا إليه بالحس ، وأن يكون بعضه متميزا عن البعض في الحس ، وأن يكون مقصدا للمتحرك ، فإذن لو كان الله تعالى حاصلا في حيز لكان ذلك الحيز موجودا ، ولو كان ذلك الحيز موجودا لكان شيئا ولكان مقدورا لله ؛ لقوله تعالى : ( وهو على كل شيء قدير    ) وإذا كان تحقق ذلك الحيز بقدرة الله وبإيجاده ، فيلزم أن يكون الله متقدما في الوجود على تحقق ذلك الحيز ، ومتى كان كذلك كان وجود الله في الأزل محققا من غير حيز وله جهة أصلا ، والأزلي لا يزول ألبتة ، فثبت أنه تعالى منزه عن الحيز والمكان أزلا وأبدا    . 
المسألة التاسعة : أنه تعالى قال أولا : ( بيده الملك    ) ثم قال بعده : ( وهو على كل شيء قدير    ) وهذا مشعر بأنه إنما يكون بيده الملك لو ثبت أنه على كل شيء قدير ، وهذا هو الذي يقوله أصحابنا من أنه لو وقع مراد العبد ولا يقع مراد الله ، لكان ذلك مشعرا بالعجز والضعف ، وبأن لا يكون مالك الملك على الإطلاق ، فدل ذلك على أنه لما كان مالك الملك وجب أن يكون قادرا على جميع الأشياء . 
المسألة العاشرة : القدير مبالغة في القادر ، فلما كان قديرا على كل الأشياء وجب أن لا يمنعه ألبتة مانع عن إيجاد شيء من مقدوراته ، وهذا يقتضي أن لا يجب لأحد عليه شيء ، وإلا لكان ذلك الوجوب مانعا له من الترك وأن لا يقبح منه شيء وإلا لكان ذلك القبح مانعا له من الفعل ، فلا يكون كاملا في القدرة ، فلا يكون قديرا ، والله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					