( وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا  ثم إني دعوتهم جهارا  ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا    ) . 
ثم قال تعالى : ( وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم    ) . 
اعلم أن نوحا  عليه السلام إنما دعاهم إلى العبادة والتقوى والطاعة ، لأجل أن يغفر لهم ، فإن المقصود الأول هو حصول المغفرة ، وأما الطاعة فهي إنما طلبت ليتوسل بها إلى تحصيل المغفرة ، ولذلك لما أمرهم بالعبادة قال : ( يغفر لكم من ذنوبكم    ) فلما كان المطلوب الأول من الدعوة حصول المغفرة لا جرم قال : ( وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم    ) واعلم أنه عليه السلام لما دعاهم عاملوه بأشياء : 
أولها : قوله : ( جعلوا أصابعهم في آذانهم    ) والمعنى أنهم بلغوا في التقليد إلى حيث جعلوا أصابعهم في آذانهم ؛ لئلا يسمعوا الحجة والبينة . 
وثانيها : قوله : ( واستغشوا ثيابهم    ) أي : تغطوا بها ، إما لأجل أن لا يبصروا وجهه ، كأنهم لم يجوزوا أن يسمعوا كلامه ، ولا أن يروا وجهه . وإما لأجل المبالغة في أن لا يسمعوا ، فإنهم إذا جعلوا أصابعهم في آذانهم ، ثم استغشوا ثيابهم مع ذلك ، صار المانع من السماع أقوى . 
وثالثها : قوله : ( وأصروا    ) والمعنى أنهم أصروا على مذهبهم ، أو على إعراضهم عن سماع دعوة الحق . 
ورابعها : قوله : ( واستكبروا استكبارا    ) أي عظيما بالغا إلى النهاية القصوى . 
ثم قال تعالى : ( ثم إني دعوتهم جهارا  ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا    ) . 
واعلم أن هذه الآيات تدل على أن مراتب  دعوته كانت ثلاثة ، فبدأ بالمناصحة في السر ، فعاملوه بالأمور الأربعة ، ثم ثنى بالمجاهرة ، فلما لم يؤثر جمع بين الإعلان والإسرار ، وكلمة " ثم " دالة على تراخي بعض هذه المراتب عن بعض إما بحسب الزمان ، أو بحسب الرتبة ؛ لأن الجهار أغلظ من الإسرار ، والجمع بين الإسرار والجهار أغلظ من الجهار وحده ، فإن قيل : بم انتصب جهارا ؟ قلنا : فيه وجوه : 
أحدها : أنه منصوب بدعوتهم نصب المصدر ؛ لأن الدعاء أحد نوعيه الجهار ، فنصب به نصب القرفصاء بقعد لكونها أحد أنواع القعود . 
وثانيها : أنه أريد بدعوتهم جاهرتهم . 
وثالثها : أن يكون صفة لمصدر دعا بمعنى دعاء جهارا ، أي مجاهرا به . 
ورابعها : أن يكون مصدرا في موضع الحال ، أي مجاهرا . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					