( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة    ) 
أما قوله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة    ) وفيه مسائل : 
 [ ص: 42 ] المسألة الأولى : في قوله : ( وما أمروا    ) وجهان : 
أحدهما : أن يكون المراد : ( وما أمروا    ) في التوراة والإنجيل إلا بالدين الحنيفي ، فيكون المراد أنهم كانوا مأمورين بذلك إلا أنه تعالى لما أتبعه بقوله : ( وذلك دين القيمة    ) علمنا أن ذلك الحكم كما أنه كان مشروعا في حقهم فهو مشروع في حقنا . 
وثانيهما : أن يكون المراد : وما أمر أهل الكتاب على لسان محمد  صلى الله عليه وسلم إلا بهذه الأشياء ، وهذا أولى ، لثلاثة أوجه : 
أحدها : أن الآية على هذا التقدير تفيد شرعا جديدا وحمل كلام الله على ما يكون أكثر فائدة أولى . 
وثانيها : وهو أن ذكر محمد  عليه السلام قد مر ههنا وهو قوله : ( حتى تأتيهم البينة    ) وذكر سائر الأنبياء عليهم السلام لم يتقدم . 
وثالثها : أنه تعالى ختم الآية بقوله : ( وذلك دين القيمة    ) فحكم بكون ما هو متعلق هذه الآية دينا قيما فوجب أن يكون شرعا في حقنا سواء قلنا : بأنه شرع من قبلنا أو شرع جديد يكون هذا بيانا لشرع محمد  عليه الصلاة والسلام وهذا قول مقاتل . 
المسألة الثانية : في قوله : ( إلا ليعبدوا الله    ) دقيقة وهي أن هذه اللام لام الغرض ، فلا يمكن حمله على ظاهره لأن كل من فعل فعلا لغرض فهو ناقص لذاته مستكمل بذلك الغرض ، فلو فعل الله فعلا لكان ناقصا لذاته مستكملا بالغير وهو محال ، لأن ذلك الغرض إن كان قديما لزم من قدمه قدم الفعل ، وإن كان محدثا افتقر إلى غرض آخر فلزم التسلسل وهو محال ولأنه إن عجز عن تحصيل ذلك الغرض إلا بتلك الواسطة فهو عاجز ، وإن كان قادرا عليه كان توسيط تلك الواسطة عبثا ، فثبت أنه لا يمكن حمله على ظاهره فلا بد فيه من التأويل . ثم قال الفراء    : العرب تجعل اللام في موضع "أن" في الأمر والإرادة كثيرا ، من ذلك قوله تعالى : ( يريد الله ليبين لكم    ) [النساء : 26] ، ( يريدون ليطفئوا    ) [الصف : 8] وقال في الأمر : ( وأمرنا لنسلم    ) [الأنعام : 71] وهي في قراءة عبد الله    : "وما أمروا إلا أن يعبدوا الله" فثبت أن المراد : وما أمروا إلا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين . والإخلاص عبارة عن  النية الخالصة ، والنية الخالصة لما كانت معتبرة كانت النية معتبرة ، فقد دلت الآية على أن كل مأمور به فلا بد وأن يكون منويا  ، ثم قالت الشافعية : الوضوء مأمور به في قوله تعالى : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم    ) [المائدة : 6] ودلت هذه الآية على أن كل مأمور يجب أن يكون منويا ، فيلزم من مجموع الآيتين وجوب كون الوضوء منويا  ، وأما المعتزلة  فإنهم يوجبون تعليل أفعال الله وأحكامه بالأغراض ، لا جرم أجروا الآية على ظاهرها فقالوا معنى الآية : وما أمروا بشيء إلا لأجل أن يعبدوا الله ، والاستدلال على هذا القول أيضا قوي ، لأن التقدير وما أمروا بشيء إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين في ذلك الشيء ، وهذا أيضا يقتضي اعتبار النية في جميع المأمورات . فإن قيل : النظر في معرفة الله مأمور به ويستحيل اعتبار النية فيه ; لأن النية لا يمكن اعتبارها إلا بعد المعرفة ، فما كان قبل المعرفة لا يمكن اعتبار النية فيه . قلنا : هب أنه خص عموم الآية في هذه الصورة بحكم الدليل العقلي الذي ذكرتم فيبقى في الباقي حجة . 
				
						
						
