أما قوله تعالى : ( وأرنا مناسكنا    ) ففيه مسائل : 
المسألة الأولى : في "أرنا" قولان : 
الأول : معناه علمنا شرائع حجنا إذ أمرتنا ببناء البيت لنحجه وندعو   [ ص: 57 ] الناس إلى حجه ، فعلمنا شرائعه وما ينبغي لنا أن نأتيه فيه من عمل وقول مجاز هذا من رؤية العلم ، قال الله تعالى : ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل    ) [الفرقان : 45] ، ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل    ) [الفيل : 1] . 
الثاني : أظهرها لأعيننا حتى نراها . 
قال الحسن    : إن جبريل  عليه السلام أرى إبراهيم  المناسك كلها  ، حتى بلغ عرفات  ، فقال : يا إبراهيم  أعرفت ما أريتك من المناسك؟ قال : نعم فسميت عرفات  فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت عرض له إبليس فسد عليه الطريق ، فأمره جبريل  عليه السلام أن يرميه بسبع حصيات ففعل ، فذهب الشيطان ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع كل ذلك يأمره جبريل  عليه السلام برمي الحصيات   . 
وههنا قول ثالث وهو أن المراد العلم والرؤية معا . وهو قول القاضي لأن الحج لا يتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى ، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية ، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعا وهذا ضعيف ، لأنه يقتضي حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز معا وأنه غير جائز ، فبقي القول المعتبر وهو القولان الأولان ، فمن قال بالقول الثاني قال : إن المناسك هي المواقف والمواضع التي يقام فيها شرائع الحج كمنى  وعرفات  والمزدلفة  ونحوها ، ومن قال بالأول قال : إن المناسك هي أعمال الحج كالطواف والسعي والوقوف . 
المسألة الثانية : النسك هو التعبد ، يقال للعابد ناسك ثم سمي الذبح نسكا والذبيحة نسيكة ، وسمي أعمال الحج مناسك . قال عليه السلام : " خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا   " . والمواضع التي تقام فيها شرائع الحج تسمى : مناسك أيضا ، ويقال : المنسك بفتح السين بمعنى الفعل ، وبكسر السين بمعنى المواضع ، كالمسجد والمشرق والمغرب ، قال الله تعالى : ( لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه    ) [الحج : 67] قرئ بالفتح والكسر ، وظاهر الكلام يدل على الفعل ، وكذلك قوله عليه السلام : " خذوا عني مناسككم   " أمرهم بأن يتعلموا أفعاله في الحج لا أنه أراد : خذوا عني مواضع نسككم إذا عرفت هذا فنقول : إن حملنا المناسك على مناسك الحج ، فإن حملناها على الأفعال فالإراءة لتعريف تلك الأعمال ، وإن حملناها على المواضع فالإراءة لتعريف البقاع ومن المفسرين من حمل المناسك على الذبيحة فقط ، وهو خطأ ، لأن الذبيحة إنما تسمى نسكا لدخولها تحت التعبد ، ولذلك لا يسمون ما يذبح للأكل بذلك فما لأجله سميت الذبيحة نسكا ، وهو كونه عملا من أعمال الحج قائم في سائر الأعمال ، فوجب دخول الكل فيه وإن حملنا المناسك على ما يرجع إليه أصل هذه اللفظة من العبادة والتقرب إلى الله تعالى ، واللزوم لما يرضيه وجعل ذلك عاما لكل ما شرعه الله تعالى لإبراهيم  عليه السلام فقوله : ( وأرنا مناسكنا    ) أي علمنا كيف نعبدك ، وأين نعبدك وبماذا نتقرب إليك حتى نخدمك به كما يخدم العبد مولاه . 
المسألة الثالثة : قرأ ابن كثير  وأبو عمرو  في بعض الروايات "أرنا" بإسكان الراء في كل القرآن ، ووافقهما عاصم  وابن عامر  في حرف واحد ، في حم السجدة ( أرنا الذين أضلانا    ) [فصلت : 29] وقرأ أبو عمرو  في بعض الروايات الظاهرة عنه باختلاس كسرة الراء من غير إشباع في كل القرآن ، والباقون بالكسرة مشبعة ، وأصله أرئنا بالهمزة المكسورة ، نقلت كسرة الهمزة إلى الراء وحذفت الهمزة وهو الاختيار لأن أكثر القراء عليه ، ولأنه سقطت الهمزة فلا ينبغي أن تسكن الراء لئلا يجحف بالكلمة وتذهب الدلالة على الهمزة ، وأما التسكين فعلى حذف الهمزة وحركتها وعلى التشبيه بما سكن كقولهم : فخذ وكبد ، وأما   [ ص: 58 ] الاختلاس فلطلب الخفة وبقاء الدلالة على حذف الهمزة . 
				
						
						
