الأمر الثالث : من الأمور المعتبرة في تحقق ماهية البر قوله : ( ليس البر أن تولوا    ) وذلك قد تقدم ذكره . 
الأمر الرابع : قوله تعالى : ( والموفون بعهدهم إذا عاهدوا    )  وفيه مسألتان : 
المسألة الأولى : في رفع " والموفون " قولان : 
أحدها : أنه عطف على محل ( من آمن    ) تقديره : لكن البر المؤمنون والموفون ، عن الفراء  والأخفش    . 
الثاني : رفع على المدح على أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : وهم الموفون . 
المسألة الثانية : في المراد بهذا العهد قولان : 
الأول : أن يكون المراد ما أخذه الله من العهود على عباده بقولهم ، وعلى ألسنة رسله إليهم بالقيام بحدوده ، والعمل بطاعته ، فقبل العباد ذلك من حيث آمنوا بالأنبياء والكتب ، وقد أخبر الله تعالى عن أهل الكتاب  أنهم نقضوا العهود والمواثيق وأمرهم بالوفاء بها فقال : ( يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم    ) [ البقرة : 40 ] فكان المعنى في هذه الآية أن البر هو ما ذكر من الأعمال مع الوفاء بعهد الله ، لا كما نقض أهل الكتاب  ميثاق الله وما وفوا بعهوده فجحدوا أنبياءه وقتلوهم وكذبوا بكتابه ، واعترض القاضي على هذا القول وقال : إن قوله تعالى : ( والموفون بعهدهم    ) صريح في إضافة هذا العهد إليهم ، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله : ( إذا عاهدوا    ) فلا وجه لحمله على ما سيكون لزومه ابتداء من قبله تعالى . 
الجواب عنه : أنه تعالى وإن ألزمهم هذه الأشياء لكنهم من عند أنفسهم قبلوا ذلك الإلزام والتزموه ، فصح من هذا الوجه إضافة العهد إليهم . 
القول الثاني : أن يحمل ذلك على الأمور التي يلتزمها المكلف ابتداء من عند نفسه . واعلم أن هذا العهد إما أن يكون بين العبد وبين الله ، أو بينه وبين رسول الله ، أو بينه وبين سائر الناس ، أما الذي بينه وبين الله فهو ما يلزمه بالنذور والأيمان ، وأما الذي بينه وبين رسول الله فهو الذي عاهد الرسول عليه عند البيعة من القيام بالنصرة والمظاهرة والمجاهدة وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه ، وأما الذي بينه وبين سائر الناس فقد يكون ذلك من الواجبات مثل ما يلزمه في عقود المعاوضات من التسليم والتسلم ، وكذا الشرائط التي يلتزمها في السلم والرهن ، وقد يكون ذلك من المندوبات مثل الوفاء بالمواعيد في بذل المال والإخلاص في المناصرة ، فقوله تعالى : ( والموفون بعهدهم إذا عاهدوا    ) يتناول كل هذه الأقسام فلا معنى لقصر الآية على بعض هذه الأقسام دون البعض ، وهذا الذي قلناه هو الذي عبر عنه المفسرون فقالوا : هم الذين إذا واعدوا أنجزوا وإذا حلفوا ونذروا وفوا ، وإذا قالوا صدقوا ، وإذا اؤتمنوا أدوا ، ومنهم من حمله على قوله تعالى : ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله    ) [ التوبة : 75 ] الآية . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					