المسألة الخامسة : اعلم أن قوله تعالى : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه    ) يستدعي بحثين : 
البحث الأول : أن شهود الشهر بماذا يحصل  ؟ فنقول : إما بالرؤية وإما بالسماع ، أما الرؤية فنقول : إذا رأى إنسان هلال رمضان فإما أن يكون منفردا بتلك الرؤية أو لا يكون ، فإن كان منفردا بها ، فإما أن يرد الإمام شهادته أو لا يردها ، فإن تفرد بالرؤية ورد الإمام شهادته ، لزمه أن يصوم ، لأن الله تعالى جعل شهود الشهر سببا لوجوب الصوم عليه ، وقد حصل شهود الشهر في حقه ، فوجب أن يجب عليه الصوم ، وأما إن انفرد بالرؤية وقبل الإمام شهادته أو لم ينفرد بالرؤية فلا كلام في وجوب الصوم . وأما السماع فنقول إذا شهد عدلان على رؤية الهلال  حكم به في الصوم والفطر جميعا ، وإذا شهد عدل واحد على رؤية هلال شوال  لا يحكم به وإذا شهد على هلال رمضان يحكم به احتياطا لأمر الصوم ، والفرق بينه وبين هلال شوال أن هلال رمضان للدخول في العبادة وهلال شوال للخروج من العبادة ، وقول الواحد في إثبات العبادة يقبل ، أما في الخروج من العبادة لا يقبل  إلا على قول الاثنين ، وعلى أنه لا فرق بينهما في الحقيقة ، لأنا إنما قبلنا قول الواحد في هلال رمضان لكي يصوموا ولا يفطروا احتياطا ، فكذلك لا يقبل قول الواحد في هلال شوال لكي يصوموا ولا يفطروا احتياطا . 
البحث الثاني في الصوم : فنقول : إن الصوم هو الإمساك عن المفطرات مع العلم بكونه صائما من أول طلوع الفجر الصادق إلى حين غروب الشمس مع النية ، وفي الحد قيود : 
القيد الأول : الإمساك وهو احتراز عن شيئين : 
أحدهما : لو طارت ذبابة إلى حلقه ، أو وصل غبار الطريق إلى بطنه  لا يبطل صومه ؛ لأن الاحتراز عنه شاق ، والله تعالى يقول في آية الصوم : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر    ) . 
والثاني : لو صب الطعام أو الشراب في حلقه كرها أو حال نوم  لا يبطل صومه ، لأن المعتبر هو الإمساك والامتناع والإكراه لا ينافي ذلك . 
القيد الثاني : قولنا عن المفطرات  وهي ثلاثة : دخول داخل ، وخروج خارج ، والجماع ، وحد الدخول كل عين وصل من الظاهر إلى الباطن من منفذ مفتوح إلى الباطن إما الدماغ أو البطن وما فيه من الأمعاء والمثانة ، أما الدماغ فيحصل الفطر بالسعوط ، وأما البطن فيحصل الفطر بالحقنة ، وأما الخروج فالقيء بالاختيار والاستمناء يبطلان الصوم ، وأما الجماع فالإيلاج يبطل الصوم . 
القيد الثالث : قولنا مع العلم بكونه صائما فلو أكل أو شرب ناسيا للصوم  لا يبطل صومه عند أبي حنيفة والشافعي ، وعند مالك يبطل . 
القيد الرابع : قولنا من أول طلوع الفجر الصادق ، والدليل عليه قوله تعالى : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر    ) [ البقرة : 187 ] وكلمة ( حتى ) لانتهاء الغاية ، وكان  الأعمش  يقول : أول وقته إذا طلعت الشمس ، وكان يبيح الأكل والشرب بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس ، ويحتج بأن   [ ص: 78 ] انتهاء اليوم من وقت غروب الشمس ، فكذا ابتداؤه يجب أن يكون من عند طلوعها ، وهذا باطل بالنص الذي ذكرناه ، وحكي عن  الأعمش  أنه دخل عليه  أبو حنيفة  يعوده ، فقال له  الأعمش    : إنك لثقيل على قلبي وأنت في بيتك ، فكيف إذا زرتني ! فسكت عنه  أبو حنيفة  ، فلما خرج من عنده قيل له : لم سكت عنه ؟ فقال : وماذا أقول في رجل ما صام وما صلى في دهره ؟ عني به أنه كان يأكل بعد الفجر الثاني قبل الشمس فلا صوم له وكان لا يغتسل من الإنزال فلا صلاة له . 
القيد الخامس : قولنا إلى غروب الشمس ، ودليله قوله عليه السلام : " إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم   " ومن الناس من يقول وقت الإفطار  عند غروب ضوء الشمس ، قاس هذا الطرف على الطرف الأول من النهار . 
القيد السادس : قولنا مع النية  ، ومن الناس من يقول : لا حاجة لصوم رمضان إلى النية لأن الله تعالى أمر بالصوم في قوله : ( فليصمه ) ، والصوم هو الإمساك ، وقد وجد فيخرج عن العهدة لكنا نقول : لا بد من النية لأن الصوم عمل بدليل قوله عليه السلام : " أفضل الأعمال الصوم   " والعمل لا بد فيه من النية لقوله عليه السلام : " إنما الأعمال بالنيات   " . 
المسألة السادسة : القائلون بأن الآية المتقدمة تدل على أن المقيم الصحيح مخير بين أن يصوم وبين أن يفطر مع الفدية  ، قالوا : هذه الآية ناسخة لها وأبو مسلم الأصفهاني  والأصم  ينكران ذلك ، وقد تقدم شرح هذه المسألة . ثم بتقدير صحة القول بهذا النسخ فهذا يدل على أن نسخ الأخف بالأثقل  جائز ، لأن إيجاب الصوم على التعيين  أثقل من إيجابه على التخيير بينه وبين الفدية . 
أما قوله تعالى : ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر    ) فقد تقدم تفسير هذه الآية ، وقد تقدم بيان السبب في التكرير . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					