[ ص: 185 ] مسألة : ( السابع : عقد النكاح لا يصح منه ، ولا فدية فيه ) : 
وجملة ذلك : أن المحرم إن كان رجلا لا يصح أن يتزوج بنفسه ولا وكيله ولا وليه ، بحيث لو وكل وهو حلال رجلا لم يجز أن يزوجه بعدما يحرم الموكل ، فأما إذا وكل وهو حرام من زوجه بعد الحل  فقال القاضي وابن عقيل    : يجوز ذلك . 
فعلى هذا لو وكل وهو حلال ثم أحرم ثم حل جاز أن يزوج الوكيل بذلك التوكيل المتقدم وأولى ; لأن العبرة بحال العقد ، ولأن التصرف بالوكالة الفاسدة  جائز ; لكن هل يجوز الإقدام على التوكيل ؟ 
وإن كانت امرأة لم يجز أن تزوج وهي محرمة بإذن متقدم على الإحرام أو في حال الإحرام ; لكن إذا أذنت حال الإحرام ... وذلك لقوله تعالى : ( فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق    ) ... . 
وعن  عثمان بن عفان  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب    " رواه الجماعة إلا  البخاري   والترمذي  ، وفي رواية عن نبيه بن   [ ص: 186 ] وهب  أن عمر بن عبيد الله  أراد أن يزوج ابنه وهو محرم فنهاه أبان  ، وزعم أن عثمان  حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المحرم لا ينكح ولا ينكح " وفي رواية : " أراد ابن معمر  أن ينكح ابنه بنت شيبة بن جبير  فبعثني إلى  أبان بن عثمان    - وهو أمير الموسم فأتيته فقلت : إن أخاك أراد أن ينكح ابنه فأراد أن يشهدك ذاك ، فقال : ألا أراه عراقيا جافيا ; إن المحرم لا ينكح ولا ينكح ، ثم حدث عن عثمان  بمثله يرفعه   " رواهما أحمد  بإسناد صحيح . 
 [ ص: 187 ] وفي رواية عن نافع  عن نبيه  مثله ، قال نافع    : وكان  ابن عمر  يقول هذا القول ، ولا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، رواه سعيد بن أبي عروبة  في المناسك . 
وعن  أيوب بن عتبة  ثنا عكرمة بن خالد  ، قال : " سألت  عبد الله بن عمر  عن امرأة أراد أن يتزوجها رجل - وهو خارج من مكة    - فأراد أن يعتمر أو يحج  ، فقال : لا يتزوجها وهو محرم ، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه   " رواه أحمد  وأبو بكر النيسابوري    . 
وروى سعيد  ثنا  عمرو بن الحارث  عن  أيوب بن موسى  عن عكرمة بن خالد المخزومي  أن  ابن عمر  نهاه أن ينكح وهو محرم   . 
 [ ص: 188 ] وروى النفيلي  ثنا  مسلم بن خالد الزنجي  عن إسماعيل  عن  ابن عمر  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المحرم لا ينكح ولا ينكح   " قال النفيلي    : هذا حديث منكر ، وهذا رجل ضعيف ؛ الزنجي ، رواه الخلال  عن الميموني  عنه في العلل . 
وعن  أنس بن مالك  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يتزوج المحرم ولا يزوج   " رواه  الدارقطني    . 
وأيضا فقد عمل بذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من أكابر الصحابة ، فعن غطفان بن طريف المري  أن أباه طريفا  تزوج وهو محرم ، فرد  عمر بن   [ ص: 189 ] الخطاب  نكاحه   . 
وعن نافع  أن  عبد الله بن عمر  كان يقول : " لا ينكح ولا يخطب على نفسه ولا على غيره " رواهما مالك  وغيره . 
وعن الحسن  أن عليا  قال : " من تزوج وهو محرم نزعنا منه امرأته ولا نجيز نكاحه " رواه  ابن أبي عروبة  وأبو بكر النيسابوري  من حديث قتادة  عنه . 
وعن شوذب مولى زيد بن ثابت    : " أنه تزوج وهو محرم ، ففرق بينهما  زيد بن ثابت    " رواه عبد الله بن أحمد  ، وقال : قرأت على أبي : يتزوج المحرم ؟   [ ص: 190 ] قال : لا يتزوج ، قال : يروى عن عمر  وعلي    : يفرق بينهما ،  وزيد بن ثابت  قال : يفرق بينهما ،  وابن عمر  قال : لا ينكح ولا ينكح   . 
وروي عن  عثمان بن عفان  عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا ينكح المحرم ولا ينكح   " . 
وهؤلاء أكابر الصحابة لم يقدموا على إبطال نكاح المحرم  والتفريق بينهما إلا بأمر بين وعلم اطلعوه ربما يخفى على غيرهم ، بخلاف من نقل عنه إجازة نكاح المحرم ، فإنه يجوز أن يبني على استصحاب الحال . 
فإن قيل : فقد روى  ابن عباس  أن النبي صلى الله عليه وسلم : " تزوج  ميمونة  وهو محرم   " رواه الجماعة ال ر ، وفي رواية  للبخاري    : " وبنى بها وهو حلال وماتت بسرف    "  وللبخاري  تعليقا : " تزوج النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء  ميمونة  وهو حلال وماتت بسرف    " . 
 [ ص: 191 ] وفي رواية  للنسائي    : " جعلت أمرها إلى العباس  فأنكحها إياه   " وفي رواية عن عكرمة  عن  ابن عباس  أن النبي صلى الله عليه وسلم : " تزوج  ميمونة بنت الحارث  وهما محرمان   " رواه أحمد  من حديث  حماد بن سلمة  عن حميد  عنه . 
وعن  الشعبي   وعطاء  وعكرمة  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تزوج  ميمونة  وهو محرم   " ولفظ  الشعبي    : احتجم وهو محرم وتزوج الهلالية وهو محرم   " رواهن سعيد    . 
وعن  أبي هريرة   وعائشة    ... ، وعن عكرمة  عن  ابن عباس    : " أنه كان لا يرى به - يعني بنكاح المحرم - بأسا ، ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج   [ ص: 192 ]  ميمونة بنت الحارث  وهو محرم بسرف  ، وبنى بها لما رجع بذلك الماء " رواه سعيد بن أبي عروبة  عن يعلى بن خليفة  عنه . 
ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرة القضية من ذي الحليفة  ، فإنه لم يجزها بغير إحرام قط ، وكانت  ميمونة  بمكة  ، وقد .... روي أنه قال لأهل مكة     : " دعوني أعرس بينكم لتأكلوا من وليمتها ، فقالوا : لا حاجة لنا في وليمتك ، فاخرج من عندنا ، فخرج حتى أتى سرفا  وأعرس بها "   . 
قيل عنه أجوبة : 
أحدها : أنه قد روى  يزيد بن الأصم  عن  ميمونة  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي حلال ، قال : وكانت خالتي وخالة  ابن عباس    "   [ ص: 193 ] رواه مسلم   وابن ماجه  ، وفي رواية لأحمد   والترمذي  ، والبرقاني  عن يزيد  عن  ميمونة    : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالا وبنى بها حلالا ، وماتت بسرف  فدفناها في الطلحة التي بنى بها فيها " وفي رواية  لأبي داود    : " تزوجني ونحن حلالان بسرف    " . 
وعن  أبي رافع مولى رسول الله  صلى الله عليه وسلم أن رسول الله : " تزوج  ميمونة  حلالا وبنى بها حلالا وكنت الرسول بينهما "   .   [ ص: 194 ] رواه أحمد   والترمذي  ، وقال : حديث حسن ، ولا نعلم أحدا أسنده غير  حماد بن زيد  عن مطر  ، ورواه مالك  عن ربيعة  عن سليمان  أن النبي صلى الله عليه وسلم ، مرسلا ، ورواه  سليمان بن بلال  عن ربيعة  مرسلا ، وهذه الرواية مقدمة على رواية  ابن عباس  لوجوه : 
أحدها : أنها هي المنكوحة وهي أعلم بالحال التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها هل كانت في حال إحرامه أو في غيرها من  ابن عباس    . 
الثاني : أن أبا رافع  كان الرسول بينهما وهو المباشر للعقد فهو أعلم بالحال التي وقع فيها من غيره . 
الثالث : أن  ابن عباس  كان إذ ذاك صبيا له نحو من عشر سنين وقد يخفى على من هذه سنه تفاصيل الأمور التي جرت في زمنه ; أما أولا : فلعدم كمال الإدراك والتمييز ، وأما ثانيا : فلأنه لا يداخل في هذه الأمور ولا يباشرها ، وإنما يسمعها من غيره ، إما في ذلك الوقت أو بعده . 
 [ ص: 195 ] الرابع : أن السلف طعنوا في رواية  ابن عباس  هذه ، فروى  أبو داود  عن  سعيد بن المسيب  قال : وهم  ابن عباس  في قوله : " تزوج  ميمونة  وهو محرم   " . 
وقال أحمد  في رواية أبي الحارث  وقد سئل عن حديث  ابن عباس    : هذا الحديث خطأ ، وقال في رواية المروذي    : أذهب إلى حديث نبيه بن وهب  ، فقال له المروذي    : إن  أبا ثور  قال لي : بأي شيء تدفع حديث  ابن عباس  ؟ فقال أبو عبد الله    : الله المستعان ، قال  سعيد بن المسيب    : وهم  ابن عباس  ،  وميمونة  تقول : تزوج وهو حلال ، وقال : إن كان  ابن عباس  ابن أخت  ميمونة  فيزيد بن الأصم  ابن أخت  ميمونة  ، وقال  أبو رافع    : كنت السفير بينهما . 
 وعمر بن الخطاب  يفرق بينهما ، هذا بالمدينة  لا ينكرونه . 
 [ ص: 196 ] وقال  ميمون بن مهران    : أرسل إلي  عمر بن عبد العزيز  أن سل  يزيد بن الأصم  كيف تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم  ميمونة  ، فسألته فقال : " تزوجها وهو حلال   " رواه سعيد  ، وقال  عمرو بن دينار    : أخبرت  الزهري  به - يعني بحديثه - عن  عمرو بن دينار  عن  ابن عباس  ، فقال : " أخبرني  يزيد بن الأصم    - وهي خالته - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال   " رواه مسلم    . 
فهذا  سعيد بن المسيب   وعمر بن عبد العزيز   والزهري  ، وهو قول أبي بكر بن عبد الرحمن  وسليمان بن يسار  وعامة علماء المدينة  ، وهم أعلم الناس بسنة ماضية ، وأبحثهم عنها ، قد استبان لهم أن الصواب رواية من روى أنه تزوجها حلالا ، وكذلك  سليمان بن يسار  يقول ذلك وهو مولاها . 
الخامس : أن الرواية بأنه تزوجها حلالا كثيرون ; فهي منهم ،  وأبو رافع   [ ص: 197 ] وعن  ميمون بن مهران  عن  صفية بنت شيبة  ، وكانت عجوزا أن النبي صلى الله عليه وسلم " ملك  ميمونة  وهو حلال وبنى بها وهو حلال وخطبها وهو حلال   " ذكره القاضي عن  ميمون بن مهران  قال : أتيت  صفية ابنة شيبة  امرأة كبيرة فقلت لها : أتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم  ميمونة  وهو محرم ؟ قالت : لا والله ، ولقد تزوجها وهما حلالان   " رواه ابن أبي خيثمة  ورواه من التابعين خلق كثير . 
وأما الرواية الأخرى فلم ترد إلا عن  ابن عباس  ، وعن أصحابه الذين أخذوها عنه ، قال  ابن عبد البر    : ما أعلم أحدا من الصحابة روي عنه أنه عليه السلام نكح ميمونة  وهو محرم  إلا  ابن عباس    . 
وإذا كان أحد الخبرين أكثر نقلة ورواة ، قدم على مخالفه ، فإن تطرق الوهم والخطأ إلى الواحد أولى من تطرقه إلى العدد ، لا سيما إذا كان العدد أقرب إلى الضبط وأجدر بمعرفة باطن الحال . 
السادس : أن في رواية عكرمة  عن  ابن عباس  أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهما محرمان ، وأن عقد النكاح كان بسرف  ، ولا ريب أن هذا غلط ، فإن عامة   [ ص: 198 ] أهل السير ذكروا أن  ميمونة  كانت قد بانت من زوجها بمكة  ولم تكن مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرته ، فإنه لم يقدم بها من المدينة  ، وإذا كانت مقيمة بمكة  فكيف تكون محرمة معه بسرف  ، أم كيف وإنما بعث إليها  جعفر بن أبي طالب  خطبها ، وهو يوهن الحديث ويعلله . 
السابع : أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها في عمرة القضية في خروجه ، ورجع بها معه من مكة  ، وإنما كان يحرم من ذي الحليفة  فيشبه أن تكون الشبهة دخلت على من اعتقد أنه تزوجها محرما من هذه الجهة ، فإن ظاهر الحال أنه تزوجها في حال إحرامه . 
أما من روى أنه تزوجها حلالا فقد اطلع على حقيقة الأمر وأخبر به ، فإما أن يكون تزوجها قبل الإحرام أو بعد قضاء عمرته ، لا سيما ومن روى أنه تزوجها قبل الإحرام معه مزيد علم . 
وقد روى مالك  عن ربيعة  عن  سليمان بن يسار  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مولاه أبا رافع  ورجلا من الأنصار  ، فزوجاه  ميمونة بنت الحارث  ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة  قبل أن يخرج   " ورواه  الحميدي  عن عبد العزيز   [ ص: 199 ] بن محمد  عن ربيعة  عن  سليمان بن يسار  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث  العباس بن عبد المطلب  ، وأبا رافع  فزوجاه بسرف  وهو حلال بالمدينة    . 
وهذا فيه نظر ، وهذا الحديث وإن كان مرسلا فهو يقوى من جهتين : 
إحداهما : أن  سليمان بن يسار  هو مولاها ، فمثله قد يطلع على باطن حالها ، ومعه مزيد علم خفي على غيره . 
الثاني : أنه هو الذي روى حديث  أبي رافع  عنه كما تقدم ، وأهل الحديث يعدونه حديثا واحدا أسنده سليمان  تارة ، وأرسله أخرى ، فيعلم أنه تلقى هذا الحديث عن  أبي رافع  وهو كان الرسول في النكاح . 
وقد روى  يونس بن بكير  عن جعفر بن برقان  عن  ميمون بن مهران  عن  يزيد بن الأصم  قال : " تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم  ميمونة  وهو حلال ، بعث إليها الفضل بن العباس  ورجل معه فزوجوه إياها   " وهذا يوافق الذي قبله في تقدم النكاح ، ويخالفه في تسمية أحد الرجلين . 
فإن قيل : فقد تقدم في رواية  أبي داود  من حديث  حماد بن سلمة  عن   [ ص: 200 ]  حبيب بن الشهيد  عن  ميمون بن مهران  عن  يزيد بن الأصم  عن  ميمونة  قالت : " تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف    " وفي رواية : " بسرف  ونحن حلال بعدما رجعنا من مكة    " رواه أحمد  ، وهذا لا يمكن إلا بعد العمرة وهو قافل من مكة  إلى المدينة    . 
وقد روى  الأوزاعي  قال : حدثنا  عطاء بن أبي رباح  عن  ابن عباس  أن النبي صلى الله عليه وسلم " تزوج  ميمونة  وهو محرم   " قال  سعيد بن المسيب    : وهم  ابن عباس  ، وإن كانت خالته ، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما حل . رواه  ابن عبد البر    . 
وقال ابن إسحاق    : حدثني نفر عن  ابن المسيب  أنه قال : " هذا  عبد الله بن عباس  يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح  ميمونة  وهو محرم ، وكذب ، وإنما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة  فكان الحل والنكاح جميعا فشبه ذلك على الناس "   . 
وهذا يدل على أن من روى أنه تزوجها حلالا اعتقد تأخر العقد عن الإحرام   [ ص: 201 ]  وابن عباس  أخبر بوقوعه قبل ذلك ، فيكون هو الذي قد اطلع على ما خفي على غيره ، يؤيد ذلك ما روى سنيد بن الحباب بن أبي معشر  عن شرحبيل بن سعد  قال : لقي  العباس بن عبد المطلب  رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة  حين اعتمر عمرة القضية ، فقال له العباس    : يا رسول الله تأيمت  ميمونة بنت الحارث بن حرب بن أبي رهم بن عبد العزى  ، فهل لك في أن تزوجها ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم ، فلما أن قدم مكة  أقام ثلاثا فجاءه  سهيل بن عمرو  في نفر من أصحابه من أهل مكة  ، فقال : يا محمد  اخرج عنا ، اليوم آخر شرطك ، فقال : دعوني أبتني بامرأتي وأصنع لكم طعاما ، فقال : لا حاجة لنا بك ولا بطعامك ، اخرج عنا ، فقال له سعد    : يا عاض بظر أمه أرضك وأرض   [ ص: 202 ] أمك دونه ، لا يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يشاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعهم فإنهم زارونا لا نؤذيهم ، فخرج فبنى بها بسرف    " . 
وروى ابن إسحاق  قال : حدثني أبان بن صالح   وعبد الله بن أبي نجيح  عن  مجاهد   وعطاء  عن  ابن عباس    : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج  ميمونة بنت الحارث  في سفرته في هذه العمرة وكان الذي زوجه  العباس بن عبد المطلب  ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا فأتاه  حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبدود  في نفر من قريش  ، وكانت قريش  قد وكلته بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة  ، فقالوا : قد انقضى أجلك فاخرج عنا ، فقال لهم : لو تركتموني فعرست بين أظهركم وصنعنا طعاما فحضرتموه ؟ فقالوا : لا حاجة لنا بطعامك فاخرج عنا ، فخرج وخلف أبا رافع  مولاه على  ميمونة  حتى أتاه بها بسرف  ، فبنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم هنالك   " . 
وقد ذكر  البخاري  بعض هذا الحديث تعليقا فقال : وزاد ابن إسحاق    : حدثني ابن نجيح  وأبان بن صالح  عن  عطاء   ومجاهد  عن  ابن عباس    : تزوج النبي صلى الله عليه وسلم  ميمونة  في عمرة القضاء   . 
فقد اضطربت هذه الروايات في وقت تزوجه ، فمن قائل أنه تزوجها قبل   [ ص: 203 ] الإحرام ، ومن قائل عقب الحل بمكة  ، ومن قائل بسرف  وهما حلالان ; إما قبل الإحرام أو بعد رجوعه إلى المدينة  ، ثم أجود ما فيها حديث  يزيد بن الأصم  عن  ميمونة  ، وحديث  سليمان بن يسار  عن  أبي رافع  ، وقد رويا مرسلين من وجوه هي أقوى من رواية من أسند ، وهذه علة فيهما إن لم توجب الرد فإنها توجب ترجح حديث  ابن عباس  الذي هو أصح إسنادا . 
قال  عمرو بن دينار    : حديث  ابن شهاب  عن جابر بن زيد  عن  ابن عباس    : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح  ميمونة  وهو محرم فقال  ابن شهاب    : حدثني  يزيد بن الأصم  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج  ميمونة  وهو حلال ، قال عمرو    : فقلت  لابن شهاب    : أتجعل حفظ  ابن عباس  كحفظ أعرابي يبول على عقبيه "   . 
قيل : أما رواية من روى أنه تزوجها وهما حلالان بسرف  إن كانت محفوظة فإن معناها والله أعلم أنه بنى بها ودخل بها بسرف  كما فسرت ذلك جميع الروايات ، فإنها كلها متفقة على أنه بنى بها بعد منصرفه من عمرته بسرف ، وأكثر الروايات على أن عقد النكاح تقدم على ذلك ، وقد تقدم أنه أراد أن يبني بها بمكة  ، اللهم إلا أن يكون تقدم الخطبة والركون ، ولم يعقد العقد إلا بسرف  حين البناء ؛ فإن هذا ممكن ، وعلى هذا حمل القاضي الروايتين ، وفسر قوله : دعوني أعرس ، معناه : أعقد وأعرس ، فلما منعوه خرج إلى سرف  فعقد وأعرس . 
 [ ص: 204 ] وأما رواية من روى أنه تزوجها قبل الإحرام أو بعده ، فإما أن يكون الأول هو المطلع على حقيقة الأمر وخفي على الثاني ، فإن ذاك مثبت وهذا ناف لا سيما وسليمان بن يسار  ، ويزيد بن الأصم  أعلم بهذه القضية من غيرهما ثم لم يتحدث بالعقد ولم يظهر إلا بعد مقدمه مكة  وانقضاء عمرته ، ومن هنا اعتقد من اعتقد أن العقد وقع في أثناء الإحرام ، وقد ذكر هذا القاضي ، وقال : هذا تأويل جيد ، أو أن يكون بعث أبا رافع  ومن معه فخطبا له ووقع الاتفاق والمواطأة على العقد ثم لم يعقد إلا بعد الإحرام . 
وأما كونهما قد رويا مرسلين ، وكون  يزيد بن الأصم  لا يعدل  ابن عباس  فليس بشيء ، فإنه قد روي مسندا من وجوه مرضية مخرجة في الصحاح والحسان ، والقصة إذا أسندها من يحدثها تارة وأرسلها أخرى كان أوكد في ثبوتها عنده وثقته بحديث من حدثه ، فإنه إنما يخاف في الإرسال من ضعف الواسطة ، فمتى سماه مرة أخرى زال الريب . 
 وابن عباس  رضي الله عنه لم يعارض به  يزيد بن الأصم  في شيء يكون  ابن عباس  أعلم به منه ، وإنما هو أمر نقلي ، العالم والجاهل فيه سواء ، ثم  ابن عباس  لم يسند روايته إلى أحد ويزيد قد أسند روايته إلى خالته المنكوحة أم المؤمنين ولا ريب أنها أعلم بحالها من ابن أختها  ابن عباس    . 
الجواب الثاني : أن تزوج  ميمونة  وإن لم يحكم فيه بصحة رواية من روى أنه تزوجها حلالا فلا ريب أنه قد اضطربت فيه النقلة ، ومع ما تقدم فلا وجه يصح الاحتجاج به لعدم الجزم بأنه تزوجها وهو محرم ، فتتساقط الروايتان ، وحديث عثمان  لا اضطراب فيه ولا معارض له . 
 [ ص: 205 ] الجواب الثالث : أنه لو تيقنا أنه تزوجها محرما لكان حديث عثمان  هو الذي يجب أن يعمل به لأوجه : 
أحدها : أن حديث عثمان  ناقل عن الأصل الذي هو الإباحة ، وحديث  ابن عباس  مبق على الأصل ، فإن قدرنا حديث  ابن عباس  متأخرا لزم تغيير الحكم مرتين ، وإن قدرنا حديث عثمان  متأخرا لكان تزوج  ميمونة  قبل التحريم ، فلا يلزم إلا تغيير الحكم مرة واحدة فيكون أولى . 
الثاني : أن حديث  ابن عباس  كان في عمرة القضية قبل فتح مكة  وقبل فرض الحج ، كما تقدم ، ولم تكن أحكام الحج قد مهدت ، ولا محظورات الإحرام قد بينت ، وحديث عثمان  إنما قاله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ; لأن النهي عن اللباس والطيب إنما بين في حجة الوداع ، فكيف النهي عن عقد النكاح ؟ إذ حاجة المحرمين إلى بيان أحكام اللباس أشد من حاجتهم إلى بيان حكم النكاح ، والغالب أن البيان إنما يقع وقت الحاجة . فهذه القرائن وغيرها تدل - من كان بصيرا بالسنن كيف كانت تسن ، وشرائع الإيمان كيف كانت تنزل - : أن النهي عن النكاح متأخر . 
الثالث : أن تزوجه فعل منه ، والفعل يجوز أن يكون خاصا به ، وحديث عثمان  نهي لأمته ، والمرجع إلى قوله أولى من فعله ، ومن رد نص قوله وعارضه بفعله فقد أخطأ . 
الرابع : أن حديث عثمان  حاظر وحديث  ابن عباس  مبيح ، والأخذ بالحاظر أحوط من الأخذ بالمبيح . 
الخامس : أن أكابر الصحابة قد عملوا بموجب حديث عثمان  ، وإذا اختلفت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون . ولم يخالفهم أحد من الصحابة فيما بلغنا إلا  ابن عباس  ، وقد علم مستند فتواه ، وعلم أن من حرم نكاح المحرم من الصحابة يجب القطع بأنه إنما فعل ذلك عن علم عنده خفي على من لم يحرمه ، فإن إثبات مثل هذه الشريعة لا مطمع في دركه بتأويل أو قياس ، وأصحاب رسول الله   [ ص: 206 ] صلى الله عليه وسلم أعلم بالله وأخشى من أن يقولوا على الله ما لا يعلمون بخلاف من أباحه فإنه قد يكون مستنده الاكتفاء بالبراءة الأصلية ، وإن كان قد ظهر له في هذه المسألة مستند آخر مضطرب . 
السادس : أن أهل المدينة  متفقون على هذا علما ورثوه من زمن الخلفاء الراشدين إلى زمن أحمد  ونظرائه ، وإذا اعتضد أحد الخبرين بعمل أهل المدينة  كان أولى من غيره في أصح الوجهين ، وهو المنصوص عن أحمد  في مواضع ، وقد تقدم أنه اعتضد في هذه المسألة أهل المدينة  ، لا سيما إذا كانوا قد رووا هم الحديث ، فإن نقلهم أصح من نقل غيرهم من الأمصار ، وهم أعلم بالسنة من سائر أهل الأمصار ، وكان عندهم من السابقين الأولين من المهاجرين  والأنصار  الذين أمرنا باتباعهم بإحسان ما لم يكن عند غيرهم ، وإنما كان الناس تبعا لهم في الرأي والرواية إلى انصرام خلافة عثمان  وبعد ذلك ، فإن لم يكونوا أعلم من غيرهم ، فلم يكونوا بدون من سواهم ، ونحن وإن لم نطلق القول   [ ص: 207 ] بأن إجماعهم حجة فإنا نضعهم مواضعهم ، ونؤتي كل ذي حق حقه ونعرف مراتب المحدثين والمفتين والعاملين لنرجح عند الحاجة من يستحق الترجيح ، وفي المسألة أقيسة شبيهة ، ومعان فقهية . 
وأيضا فإن الإحرام تحريم جميع دواعي النكاح تحريما يوجب الكفارة مثل القبلة والطيب ، ويمنع التكلم بالنكاح والزينة ، وهذه مبالغة في حسم مواد النكاح عنه . 
وعقد النكاح من أسبابه ودواعيه ، فوجب أن يمنع منه وعكسه الصيام والاعتكاف ، فإنه يحرم القبلة ولا يمنع الطيب والتكلم بالنكاح ، والاعتكاف . وإن قيل بكراهة الطيب فيه فإنه لا يحرم ذلك ، ثم لا كفارة في شيء من مقدمات النكاح إذا فعله في الصيام والاعتكاف . 
وقد بالغ الشرع في قطع أسبابه ، حتى إنه يفرق بين الزوجين في قضاء الحجة الفاسدة . 
وأيضا فإن المقصود بالنكاح : حل الاستمتاع ، فمن حقه ألا يصح إلا في حل يقبل الاستمتاع ، وأن لا يتأخر حل الاستمتاع عن العقد ; لأن السبب إذا لم يفد حكمه ومقصوده وقع باطلا ، كالبيع في محل لا يملكه ، والإجارة على منافع لا تستوفى ، ولهذا لم يصح في المعتدة من نكاح أو في شبهة أو زنا ، ولا في المستبرأة في ظاهر المذهب ،   [ ص: 208 ] وإن قيل : تعتد بعد العقد . وسائر أحكام النكاح من الإرث ووجوب النفقة وجواز الخلوة والنظر توابع لحل الاستمتاع . 
وإنما صح نكاح الحائض والنفساء والصائمة    ; لأن بعض أنواع الاستمتاع هناك ممكن ، أو وقت الاستمتاع قريب ، فإن الصائم يستمتع بالليل والحائض يستمتع منها بما دون الفرج ، وأما المعتكف فإن أصحابنا قالوا : يصح نكاحه لأن منعه ... . 
والإحرام يمنع الاستمتاع بكل حال  منعا مؤكدا تطول مدته على وجه يفضي الاستمتاع إلى مشاق شديدة من المضي في الفاسد ووجوب القضاء والهدي والتعرض لسخط الله وعقابه ، والإحرام لا ينال إلا بكلف ومشاق ، وليس في العبادات أشد لزوما وأبلغ نفوذا منه ، فإيقاع النكاح فيه إيقاع له . 
وأيضا فإن الإحرام مبناه على مفارقة العادات في الترفه ، وترك أنواع الاستمتاعات فلا يلبس اللباس المعتاد ، ولا يتطيب ولا يتزين ولا يتظلل ، ويلازم   [ ص: 209 ] الخشوع والاخشيشان ، ويقصد بيت الله أشعث أغبر أدفر قملا ، ولا شك أن من يتزوج فقد فتح باب التنعم والاستمتاع وعقد أسباب اللذة والشهوة وتعرض للهو واللعب ، وحاله مخالفة لحال الخاشع المعرض عن جميع العادات ، والصائم يخالفه في عامة هذه الأشياء فإن تحفية الطيب والمجمر ، والمعتكف بينهما . 
وأيضا فإن المعتدة عن وفاة الزوج منعت الطيب والزينة  حسما لمواد النكاح ومفارقة لحال المتزوجة وألزمت لزوم المنزل ، والمحرمة قد منعت الطيب والزينة  فهي كالمعتدة من الوجه . 
وأيضا فإن المقصود من النكاح الاستمتاع ، فلما منع المحرم من النكاح منع من مقصوده ، كتملك الصيد لما كان مقصوده ابتذال الصيد وإتلافه منع منه لما كان ممنوعا من مقصوده ; يوضح ذلك : أن نفس ملك الصيد لا محظور فيه كملك ... . 
ولهذا لا يمنع دوام ملك النكاح والصيد ، وإنما يمنع من ابتدائهما ، وعكسه شراء الجواري والطيب واللباس ، لما لم يكن مقصوده مجرد الاستمتاع لم يمنع منه   [ ص: 210 ]   ( فصل ) 
وإذا تزوج وهو محرم ... . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					