فصل : 
والمضمضة والاستنشاق واجبان في الطهارتين الصغرى والكبرى  في ظاهر المذهب ، وعنه أن الاستنشاق وحده هو الواجب لما روى  أبو هريرة  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا توضأ أحدكم فليستنثر   " ، وفي لفظ " فليجعل في أنفه ماء ثم يستنثر   " متفق عليه ، وفي لفظ  لمسلم    " من توضأ فليستنشق   " . وقال للقيط بن صبرة    : " وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما   " فأمر بالمبالغة والاستنثار المستلزمين للاستنشاق . 
 [ ص: 178 ] قام الدليل على استحباب الصفة ، بقي أصل الفعل على الوجوب ، ولم يرد مثل هذه الأحاديث الصحاح في المضمضة ؛ ولأن طرف الأنف لا يزال مفتوحا ليس له ساتر بخلاف الفم ، ولهذا أمر القائم من نومه بالاستنشاق ثلاث مرات ولم يذكر المضمضة ، والرواية الثالثة : أنهما يجبان في الكبرى دون الصغرى؛ لأن الغسل مبناه على وجوب غسل جميع ما يمكن من الظاهر والباطن بدليل باطن الشعور الكثيفة من اللحية والرأس بخلاف الوضوء ، فإنه لا يجب فيه غسل ما استتر كباطن اللحية . 
ويروى عنه أنه يجب الاستنشاق وحده في الوضوء خاصة ؛ لأنه الذي جاء فيه النص ، والصحيح الأول ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بغسل الوجه مطلقا ، وفسره النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وتعليمه فتمضمض واستنشق في كل وضوء توضأه ، ولم ينقل عنه أنه أخل به أبدا مع اقتصاره على أقل ما يجزئ حين توضأ مرة مرة ، وقال : هذا صفة الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به ، وهذا أقصى حد في اقتصار الوجوب من جهة أن فعله إذا خرج امتثالا لأمر كان حكمه حكم ذلك الأمر في اقتضاء الوجوب . 
ومن جهة أنه لو كان مستحبا لأخل به ولو مرة ليبين جواز الترك كما ترك الثانية والثالثة ، ومن جهة أنه لما توضأ قال : هذا صفة الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به ، وقد روى  أبو داود  عن لقيط بن صبرة  عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا توضأت فتمضمض   " وعن  حماد بن   [ ص: 179 ] سلمة  عن عمار بن أبي عمار  عن  أبي هريرة  قال : " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمضمضة والاستنشاق   " . وعن سليمان بن موسى الزهري  عن عروة  عن  عائشة  عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه   " رواهما  الدارقطني    . وقد روى هذين الحديثين مسندين ومرسلين ، والمرسل إذا أرسل من جهة أخرى أو عضده ظاهر القرآن أو السنة صار حجة وفاقا وهو كذلك ؛ ولأن الفم والأنف في الوجه ، وحكمهما حكم الظاهر ، وتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم الاستنشاق بالأمر ؛ لا لأنه أولى بالتطهير من الفم ، كيف والفم أشرف؛ لأنه محل الذكر والقراءة وتغيره بالخلوف أكثر ، لكن يشبه -والله أعلم- أن الفم لما شرع له التطهير بالسواك وأوكد أمره وكان غسله بعد الطعام مشروعا   [ ص: 180 ] وقبل الطعام على قول ، علم اعتناء الشارع بتطهيره بخلاف الأنف ، فإنه ذكر لبيان حكمه ؛ خشية أن يهمل إذا لم يشرع غسله إلا في الوضوء وعند الانتباه . 
				
						
						
