( 935 ) مسألة : قال : ( ومن تكلم عامدا أو ساهيا بطلت صلاته ) أما الكلام عمدا ، وهو أن يتكلم عالما أنه في الصلاة ، مع علمه بتحريم ذلك لغير مصلحة الصلاة ، ولا لأمر يوجب الكلام ، فتبطل الصلاة إجماعا . قال  ابن المنذر    : أجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامدا  وهو يريد صلاح صلاته ، أن صلاته فاسدة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن   } رواه  مسلم  وعن  زيد بن أرقم  قال : { كنا نتكلم في الصلاة ، يكلم أحدنا صاحبه وهو إلى جنبه ، حتى نزلت { وقوموا لله قانتين    } فأمرنا بالسكوت   } متفق عليه  ولمسلم    : ونهينا  [ ص: 391 ] عن الكلام وعن  ابن مسعود  قال : { كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا ، فلما رجعنا من عند  النجاشي  سلمنا عليه ، فلم يرد علينا ، فقلنا : يا رسول الله ، كنا نسلم في الصلاة فترد علينا . قال : إن في الصلاة لشغلا   } متفق عليه ورواهما أبو داود ،  ولفظه في حديث  ابن مسعود    : { فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ، قال : إن الله يحدث من أمره ما يشاء ، وإن الله قد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة   } 
فأما الكلام غير ذلك ، فيقسم خمسة أقسام : أحدها أن يتكلم جاهلا بتحريم الكلام في الصلاة .  فقال  القاضي  في " الجامع " لا أعرف عن  أحمد  نصا في ذلك . 
ويحتمل أن لا تبطل صلاته لأن الكلام كان مباحا في الصلاة ، بدليل حديث  ابن مسعود   وزيد بن أرقم  ، ولا يثبت حكم النسخ في حق من لم يعلمه ، بدليل أن أهل قباء  لم يثبت في حقهم حكم نسخ القبلة قبل علمهم ، فبنوا على صلاتهم بخلاف الناسي ، فإن الحكم قد ثبت في حقه ، وبخلاف الأكل في الصوم جاهلا بتحريمه ، فإنه لم يكن مباحا ، وقد دل على صحة هذا حديث معاوية بن الحكم السلمي  قال : { بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم ، فقلت : يرحمك الله . فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت واثكل أمياه ، ما شأنكم تنظرون إلي ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلما رأيتهم يصمتوني ، لكني سكت ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه ، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني ، ثم قال : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن   } 
أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم فلم يأمره بالإعادة ، فدل على صحتها وهذا مذهب  الشافعي  والأولى أن يخرج هذا على الروايتين في كلام الناسي ، لأنه معذور مثله . القسم الثاني ، أن يتكلم ناسيا ، وذلك نوعان ; أحدهما أن ينسى أنه في صلاة ، ففيه روايتان . إحداهما ، لا تبطل الصلاة . 
وهو قول  مالك   والشافعي  لأن ; النبي صلى الله عليه وسلم تكلم في حديث ذي اليدين ،  ولم يأمر معاوية بن الحكم  بالإعادة إذ تكلم جاهلا ، وما عذر فيه بالجهل عذر فيه بالنسيان . والثانية : تفسد صلاته . وهو قول  النخعي  ،  وقتادة  ،  وحماد بن أبي سليمان  ، وأصحاب الرأي ; لعموم أحاديث المنع من الكلام ولأنه ليس من جنس ما هو مشروع في الصلاة ، فلم يسامح فيه بالنسيان ، كالعمل الكثير من غير جنس الصلاة . 
النوع الثاني : أن يظن أن صلاته تمت ، فيتكلم  ، فهذا إن كان سلاما لم تبطل الصلاة ، رواية واحدة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعلوه ، وبنوا على صلاتهم ، ولأن جنسه مشروع في الصلاة ، فأشبه الزيادة فيها من جنسها . وإن لم يكن سلاما ، فالمنصوص عن  أحمد  ، في رواية جماعة من أصحابه ، أنه إذا تكلم بشيء مما تكمل به الصلاة ، أو شيء من شأن الصلاة ، مثل كلام النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين  ، لم تفسد صلاته وإن تكلم بشيء من غير أمر الصلاة كقوله : يا غلام اسقني ماء . فصلاته باطلة . 
وقال في رواية  يوسف بن موسى  من تكلم ناسيا في صلاته يظن أن صلاته قد تمت ، إن كان كلامه فيما تتم به الصلاة ، بنى على صلاته كما كلم النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين    . وإذا قال : يا غلام اسقني ماء . أو شبهه أعاد وممن تكلم بعد أن سلم ، وأتم صلاته ،  الزبير  ، وابناه  عبد الله   وعروة  ، وصوبه  ابن عباس  ولا نعلم عن غيرهم في عصرهم خلافه . وفيه رواية ثانية أن الصلاة تفسد بكل حال . قال في رواية حرب    : أما من تكلم اليوم وأجابه أحد أعاد الصلاة . 
وهذه الرواية اختيار  الخلال    . وقال : على هذا استقرت الروايات عن  أبي عبد الله  بعد توقفه وهذا مذهب أصحاب الرأي ; لعموم الأخبار في منع الكلام . وفيه رواية ثالثة أن  [ ص: 392 ] الصلاة لا تفسد بالكلام في تلك الحال بحال سواء كان من شأن الصلاة ، أو لم يكن ، إماما كان أو مأموما . وهذا مذهب  مالك  ،  والشافعي    ; لأنه نوع من النسيان فأشبه المتكلم جاهلا ، ولذلك تكلم النبي ; صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وبنوا على صلاتهم ، وتخرج فيه رواية رابعة ، وهو أن المتكلم إن كان إماما تكلم لمصلحة الصلاة لم تفسد صلاته ، وإن تكلم غيره فسدت صلاته . ويأتي الكلام على الفرق بينهما فيما بعد ، إن شاء الله تعالى . 
القسم الثالث ، أن يتكلم مغلوبا على الكلام ، وهو ثلاثة أنواع : أحدها أن تخرج الحروف من فيه بغير اختياره ، مثل أن يتثاءب ، فيقول : هاه ، أو يتنفس ، فيقول : آه . أو يسعل ، فينطق في السعلة بحرفين ، وما أشبه هذا أو يغلط في القراءة ، فيعدل إلى كلمة من غير القرآن ، أو يجيئه البكاء فيبكي ولا يقدر على رده ، فهذا لا تفسد صلاته نص عليه  أحمد  في الرجل يكون في الصلاة فيجيئه البكاء فيبكي ،  فقال : إذا كان لا يقدر على رده لا تفسد صلاته . وقال : قد كان  عمر  يبكي ، حتى يسمع له نشيج . وقال مهنا    : صليت إلى جنب  أحمد  فتثاءب خمس مرات ، وسمعت لتثاؤبه : هاه هاه وهذا لأن الكلام هاهنا لا ينسب إليه ، ولا يتعلق به حكم من أحكام الكلام . 
وقال  القاضي  في من تثاءب ، فقال آه آه : تفسد صلاته . وهذا محمول على من فعل ذلك غير مغلوب عليه ; لما ذكرنا من فعل  أحمد  خلافه . والنوع الثاني أن ينام فيتكلم ، فقد توقف  أحمد  عن الجواب فيه . وينبغي أن لا تبطل صلاته ; لأن القلم مرفوع عنه . ولا حكم لكلامه ، فإنه لو طلق أو أقر أو أعتق لم يلزمه حكم ذلك . النوع الثالث : أن يكره على الكلام فيحتمل أن يخرج على كلام الناسي ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما في العفو ، بقوله عليه الصلاة والسلام { عفي لأمتي عن الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه   } وقال  القاضي    ; هذا أولى بالعفو ، وصحت الصلاة ; لأن الفعل غير منسوب إليه ، ولهذا لو أكره على إتلاف مال لم يضمنه ولو أتلفه ناسيا ضمنه والصحيح ، إن شاء الله ، أن هذا تفسد صلاته ; لأنه أتى بما يفسد الصلاة عمدا ، فأشبه ما لو أكره على صلاة الفجر أربعا ، أو على أن يركع في كل ركعة ركوعين . 
ولا يصح قياسه على الناسي لوجهين : أحدهما أن النسيان يكثر ، ولا يمكن التحرز منه بخلاف الإكراه ، والثاني أنه لو نسي فزاد في الصلاة ، أو نسي في كل ركعة سجدة ، لم تفسد صلاته ، ولم يثبت مثل هذا في الإكراه . القسم الرابع ، أن يتكلم بكلام واجب ، مثل أن يخشى على صبي أو ضرير الوقوع في هلكة ، أو يرى حية ونحوها تقصد غافلا أو نائما أو يرى نارا يخاف أن تشتعل في شيء ونحو هذا ، ولا يمكن التنبيه بالتسبيح . فقال أصحابنا : تبطل الصلاة بهذا . 
وهو قول بعض أصحاب  الشافعي    ; لما ذكرنا في كلام المكره . ويحتمل أن لا تبطل الصلاة به . وهو ظاهر قول  أحمد  ، رحمه الله ; فإنه قال في قصة ذي اليدين    : إنما كلم القوم النبي صلى الله عليه وسلم حين كلمهم لأنه كان عليهم أن يجيبوه . فعلل صحة صلاتهم بوجوب الإجابة عليهم . وهذا متحقق هاهنا ، وهذا ظاهر مذهب  الشافعي    . والصحيح عند أصحابه ، أن الصلاة لا تبطل بالكلام في جميع هذه الأقسام ، ووجه صحة الصلاة هاهنا ، أنه تكلم بكلام واجب عليه ، أشبه كلام المجيب للنبي صلى الله عليه وسلم . القسم الخامس : أن يتكلم لإصلاح الصلاة ونذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى . 
( 936 ) فصل : وكل كلام حكمنا بأنه لا يفسد الصلاة فإنما هو في اليسير منه ، فإن كثر ، وطال ، أفسد الصلاة . وهذا منصوص  الشافعي    . وقال  القاضي  ، في المجرد كلام الناسي إذا طال  يعيد رواية واحدة . وقال في  [ ص: 393 ] الجامع لا فرق بين القليل والكثير في ظاهر كلام  أحمد  لأن ما عفي عنه بالنسيان استوى قليله وكثيره كالأكل في الصيام . وهذا قول بعض الشافعية ولنا : أن دلالة أحاديث المنع من الكلام عامة تركت في اليسير بما ورد فيه الأخبار ، فتبقى فيما عداه على مقتضى العموم ، ولا يصح قياس الكثير على اليسير ; لأنه لا يمكن التحرز منه ، وقد عفي عنه في العمل من غير جنس الصلاة بخلاف الكثير 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					