1510 مسألة : 
وأما الإقالة فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحض عليها : روينا من طريق أبي داود  أنا  يحيى بن معين  أنا  حفص هو ابن غياث  عن  الأعمش  عن أبي صالح  عن  أبي هريرة  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من أقال نادما أقاله الله عثرته   }  [ ص: 484 ] 
وقال  أبو حنيفة  ،  والشافعي  ،  وأبو سليمان    : ليست بيعا ، إنما هي فسخ بيع . 
وقال  أبو يوسف    : هي بعد القبض بيع ، وقبل القبض فسخ بيع . 
وروي عن  مالك    : أنها بيع . 
وروي عنه ما يدل على أنها فسخ بيع : فأما تقسيم  أبي يوسف  فدعوى بلا برهان ، وتقسيم بلا دليل ، وما كان هكذا فهو باطل . 
وأما من قال : ليست بيعا ، فإنهم احتجوا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها باسم الإقالة ، واتبعه المسلمون على ذلك ، ولم يسمها عليه السلام بيعا ، والتسمية في الدين لا تؤخذ إلا عنه عليه السلام ، فلا يجوز أن تسمى بيعا ; لأنه عليه السلام لم يسمها هذا الاسم . 
وقالوا : قد صح الإجماع على جواز الإقالة في السلم ، والبيع قبل القبض  لا يجوز ، فصح أنها ليست بيعا ، ما نعلم لهم حجة غير هاتين . 
قال  أبو محمد    : احتجاجهم بالتسمية من النبي صلى الله عليه وسلم فقولهم حق ، إلا أننا لا نسلم لهم أنه عليه السلام سمى إقالة : فعل من باع من آخر بيعا ثم استقاله فيه ، فرد إليه ما ابتاع منه وأخذ ثمنه منه ، وأنه عليه السلام لم يسم ذلك بيعا ، ولا يجدون هذا أبدا ، لا في رواية صحيحة ، ولا سقيمة وهذا الخبر المرسل من طريق ربيعة  لو شئنا أن نستدل منه بأن الإقالة بيع لفعلنا ; لأنه فيه النهي عن البيع قبل القبض إلا من أشرك ، أو ولى ، أو أقال فهذا ظاهر أنها بيوع مستثناة من جملة البيوع . 
وأما الخبر الصحيح الذي ذكرنا فإنما فيه الحض على الإقالة فقط ، والإقالة تكون في غير البيع ، لكن في الهبة ، ونحو ذلك . 
ولا فيه أيضا أن الإقالة لا تسمى بيعا ، ولا لها حكم البيع فبطل ما صدروا به من هذا الاحتجاج الصحيح أصله الموضوع في غير موضعه . 
وأما دعواهم الإجماع على جواز الإقالة في السلم قبل القبض فباطل ، وإقدام على الدعوى على الأمة ، وما وقع الإجماع قط على جواز السلم ، فكيف على الإقالة فيه . 
وقد روينا عن  عبد الله بن عمرو  ،  وعبد الله بن عمر  ، والحسن  ،  وجابر بن زيد  ،  [ ص: 485 ]  وشريح  ، والشعبي  ،  والنخعي   وابن المسيب  ،  وعبد الله بن معقل   وطاوس  ، ومحمد بن علي بن الحسن  ،  وأبي سلمة بن عبد الرحمن  ،  ومجاهد  ،  وسعيد بن جبير  ،  وسالم بن عبد الله  ، والقاسم بن محمد  ،  وعمرو بن الحارث  أخي أم المؤمنين  جويرية    : أنهم منعوا من أخذ بعض السلم ، والإقالة في بعضه ، فأين الإجماع ؟ فليت شعري هل تقروا جميع الصحابة أولهم عن آخرهم حتى أيقنوا بأنهم أجمعوا على ذلك ؟ أم تقروا جميع علماء التابعين من أقصى خراسان  إلى الأندلس  فما بين ذلك كذلك . 
ثم لو صح لهم هذا وهو لا يصح أبدا فما يختلف مسلمان في أن من الجن قوما صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ، ومن أنكر هذا فهو كافر ، لتكذيبه القرآن ، فلأولئك الجن من الحق ووجوب التعظيم منا ، ومن منزلة العلم ، والدين ، ما لسائر الصحابة رضي الله عنهم ، هذا ما لا شك فيه عند مسلم ، فمن له بإجماعهم على ذلك ؟ ورحم الله  أحمد بن حنبل  فلقد صدق إذ يقول : من يدعي الإجماع فقد كذب ، ما يدريه لعل الناس اختلفوا ؟ لكن ليقل : لا أعلم خلافا ، هذه أخبار المريسي  ، والأصم    . 
قال  أبو محمد    : لا تحل دعوى الإجماع إلا في موضعين    : أحدهما : ما تيقن أن جميع الصحابة رضي الله عنهم عرفوه بنقل صحيح عنهم وأقروا به والثاني : ما يكون من خالفه كافرا خارجا عن الإسلام ، كشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا  رسول الله ، وصيام رمضان ، وحج البيت  ، والإيمان بالقرآن ، والصلوات الخمس ، وجملة الزكاة ، والطهارة للصلاة ، ومن الجنابة ، وتحريم الميتة ، والخنزير ; والدم ، وما كان من هذا الصنف فقط . 
ثم لو صح لهم ما ادعوه من الإجماع على جواز الإقالة في السلم لكان بيعا مستثنى بالإجماع من جملة البيوع ، فكيف وقد صح عن  ابن عباس  ما يدل على المنع من الإقالة في السلم . 
روينا من طريق  سعيد بن منصور  أنا  سفيان هو ابن عيينة  عن عمرو بن دينار  عن  طاوس  عن  ابن عباس  قال : إذا أسلفت في شيء إلى أجل فسمي فجاء ذلك الأجل ولم تجد الذي أسلفت فيه : فخذ عرضا بأنقص ولا تربح مرتين ولم يفت بالإقالة .  [ ص: 486 ] 
قال  علي    : ولا تجوز الإقالة في السلم ; لأنه بيع ما ليس عندك ، وبيع غرر ، وبيع ما لم يقبض ، وبيع مجهول لا يدري أيما في العالم هو ؟ وهذا هو أكل المال بالباطل ، إذ لم يأت بجوازه نص فيستثنيه من جملة هذه المحرمات ، فإنما الحكم فيمن لم يجد ما أسلف فيه أن يصبر حتى يوجد ، أو يأخذ منه قصاصا ومعاقبة ما اتفقا عليه وتراضيا به : قيمة ما وجب له عنده ، لقول الله تعالى : { والحرمات قصاص    } وحريمة المال حرمة محرمة يجب أن يقتص منها ، فإن أراد الإحسان إليه فله أن يبرئه من كل ما له عنده ، أو يأخذ بعض ما له عنده ، أو يبرئه مما شاء منه ويتصدق به عليه ، كما { أمر رسول الله في المفلس إذ قال : تصدقوا عليه   } ثم قال عليه السلام : { خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك   } 
وقد ذكرناه بإسناده " في التفليس " وفي " الجوائح " من كتابنا هذا . 
قال  أبو محمد    : فإذا بطل كل ما احتجوا به فلنقل على تصحيح قولنا بعون الله تعالى ، فنقول ، وبه تعالى نتأيد : إن الإقالة لو كانت فسخ بيع لما جازت إلا برد عين الثمن نفسه لا بغيره ولا بد له كما قال  ابن سيرين  ، كما روينا من طريق الحجاج بن المنهال  أنا الربيع بن حبيب    : كنا نختلف إلى السواد في الطعام وهو أكداس قد حصد فنشتريه منهم الكر بكذا وكذا ، وننقد أموالنا ، فإذا أذن لهم العمال في الدراس ، فمنهم من يفي لنا بما سمي لنا ، ومنهم من يزعم أنه نقص طعامه فيطلب إلينا أن نرتجع بقدر ما نقص رءوس أموالنا ، فسألت الحسن  عن ذلك ؟ فكرهه إلا أن يستوفى ما سمي لنا ، أو نرتجع أموالنا كلها ، وسألت  ابن سيرين  ؟ فقال : إن كانت دراهمك بأعيانها فلا بأس ، وسألت  عطاء  ؟ فقال : ما أراك إلا قد رفقت وأحسنت إليه . 
قال  أبو محمد    : هذه صفة الفسخ ، ثم نرجع فنقول : إن البيع عقد صحيح بالقرآن ، والسنن ، والإجماع المتيقن المقطوع به من كل  [ ص: 487 ] مسلم على أديم الأرض كان أو هو كائن فإذ هو كذلك باليقين لا بالدعاوى الكاذبة ، فلا يحل فسخ عقد صححه الله تعالى في كتابه ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بنص آخر ، ولا نص في جواز فسخه مطارفة بتراضيهما ، إلا فيما جاء نص بفسخه ، كالشفعة ، وما فيه الخيار بالنص ، فإذ ذلك كذالك ، ولم يكن بين من أجاز الفسخ نص أصلا فقد صح : أن الإقالة بيع من البيوع بتراضيهما ، يجوز فيها ما يجوز في البيوع ، ويحرم فيها ما يحرم في البيوع . 
ومن رأى أن الإقالة فسخ بيع لزمه أن لا يجيزها بأكثر مما وقع به البيع ، لأن الزيادة إذ لم تكن بيعا فهو أكل مال بالباطل . 
وأما من رآها بيعا فإنه يجيزها بأكثر مما وقع به البيع أولا ، وبأقل ، وبغير ما وقع به البيع ، وحالا ، وفي الذمة ، وإلى أجل فيما يجوز فيه الأجل ، وبهذا نأخذ وبالله تعالى التوفيق . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					