[ ص: 216 ] مسألة : ولا قود على مجنون فيما أصاب في جنونه ، ولا على سكران فيما أصاب في سكره    - المخرج له من عقله - ولا على من لم يبلغ ، ولا على أحد من هؤلاء : دية ، ولا ضمان ، وهؤلاء والبهائم سواء لما ذكرنا في " الطلاق " وغيره من الخبر الثابت في رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق والسكران لا يعقل وقد ذكرنا { خبر  حمزة    - رضي الله عنه - في قوله لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لو قاله في صحته لخرج بذلك عن الإسلام وعقره ناقتي  علي    - رضي الله عنه - فلم يجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك ملامة ولا غرامة   } . 
وقال بعضهم : لو كان هذا ما شاء واحد أن يقتل أحدا أو يفسد ماله إلا تساكر حتى يبلغ ما يريد ؟ فقلنا لهم : فقولوا هذا الكلام في المجنون ، فقولوا : لو كان هذا لما شاء أحد أن يقتل أحدا ، أو يتلف ماله إلا تحامق وتجنن ، حتى يبلغ من ذلك ما يريد ولا فرق . 
فقالوا : ومن يعرف أنه سكران ؟ فقلنا : ومن يعرف أنه مجنون ؟ قال  أبو محمد  رضي الله عنه : والحق المتيقن في هذا : أن الأحكام لازمة لكل بالغ حتى يوقن أنه ذاهب العقل بجنون أو سكر . 
وأما ما لم يوقن ذلك - فالأحكام له لازمة وحال ذهاب العقل بأحد هذين الوجهين لا يخفى على من يشاهده ، وقد وافقنا المخالفون لنا في هذا المكان على أن لا يؤخذ السكران بارتداده عن الإسلام - وهذا أشنع من كل ما سواه . 
فإن قالوا : فهلا جعلتم في ذلك دية ؟ قلنا : لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام   } فأموال الصبي والمجنون والسكران حرام بغير نص ، كتحريم دمائهم ولا فرق ولا نص في وجوب غرامة عليهم أصلا . 
وجاءت عمن دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك آثار - :  [ ص: 217 ] أما الصبي - فجاء عن  علي بن أبي طالب  أثر بأن ستة صبيان تغاطوا في النهر فغرق أحدهم فشهد اثنان على ثلاثة ، وشهد الثلاثة على الاثنين ، فجعل  علي  على الاثنين ثلاثة أخماس الدية ، وجعل على الثلاثة خمسي الدية - . 
وهذا لا يصح ألبتة ; لأنه من رواية  سلمة بن كهيل  ، أو  حماد بن أبي سليمان    : أن  علي بن أبي طالب    - وكلاهما لم يولد إلا بعد موت علي . 
ومن طريق  الحجاج بن أرطاة    - وهو هالك - . ثم لو صح لكان المالكيون ، والحنفيون ، والشافعيون مخالفون له ، وإنما يكون الشيء حجة على من صححه ، لا على من لم يصححه . 
وروي إيجاب الغرامة على عاقلة الصبي عن الزهري  ،  وحماد بن أبي سليمان  ،  وإبراهيم النخعي  ،  وقتادة    - وبه يقول  أبو حنيفة    . 
وروي عن  ربيعة  أنه قال : إذا كان الصبي صغيرا جدا فلا شيء على عاقلته ، ولا في ماله - وإن كان يعقل فالدية على عاقلته . 
وبه يقول  مالك    - وقال  الشافعي    : هي في ماله بكل حال . 
قال  أبو محمد  رضي الله عنه : فهذه مناقضات ظاهرة ، وأقوال بلا دليل ، لا من قرآن ، ولا سنة صحيحة ، ولا سقيمة ، ولا رواية عن صاحب أصلا ، ولا قياس ، وما كان هكذا فهو باطل متيقن . 
وقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يقاس على العامد ، وقياسه على الخطأ باطل لو كان القياس حقا ; لأنه لا يقاس عندهم الشيء إلا على نظيره ومشبهه ، ولا شبه بين العاقل البالغ وبين الصبي المجنون أصلا - فبطل كل ما قالوه - وبالله تعالى التوفيق . 
وقد أجمعوا على سقوط الكفارة في ذلك عنه ، فلو كان القياس حقا لكان إسقاط الدية قياسا على سقوط الكفارة في ذلك أصح قياس يوجد ، ولكنهم لا النصوص يتبعون ، ولا القياس يحسنون ، ولا الصحابة يقلدون . 
وأما المجنون - فحدثنا أحمد بن عمر بن أنس  أنا عبد الله بن الحسين بن عقال  أنا إبراهيم بن محمد الدينوري  أنا محمد بن أحمد بن الجهم  أنا جعفر بن محمد الصائغ  أنا  [ ص: 218 ]  عفان - هو ابن مسلم    - أنا  صخر بن جويرية  عن  نافع مولى ابن عمر  قال : إن مجنونا على عهد  ابن الزبير  دخل البيت بخنجر فطعن ابن عمه فقتله ؟ فقضى  ابن الزبير  بأن يخلع من ماله ويدفع إلى أهل المقتول . ومن طريق  حماد بن سلمة  عن  هشام بن عروة بن الزبير  عن أبيه : أن  عبد الله بن الزبير  قال : جناية المجنون في ماله . 
قال  أبو محمد  رضي الله عنه : وهذان الأثران في غاية الصحة . 
ومن طريق الحسين بن عبد الله بن ضمرة  عن أبيه عن جده عن  علي  قال : جناية الصبي ، والمجنون على عاقلتهما - . 
وهذا لا يصح ; لأن الحسين بن عبد الله  ، وأباه ، وجده : لا خير فيهم . 
ومن طريق  مالك  عن  يحيى بن سعيد الأنصاري    : أن مروان  كتب إلى  معاوية  في مجنون قتل رجلا ؟ فكتب إليه  معاوية    : اعقله ، ولا تقد منه - . 
وهذا لا يصح ; لأن  يحيى بن سعيد الأنصاري  لم يولد إلا بعد موت  معاوية    . 
وروينا عن  سعيد بن المسيب  ،  وسليمان بن يسار  على المجنون العقل - ولا يصح عنهما ; لأنه عن مخرمة بن بكير  عن أبيه ، ولم يسمع من أبيه شيئا . 
ورويناه أيضا - عن  يحيى بن سعيد الأنصاري  ، ومحمد بن جعفر بن الزبير  جناية المجنون على عاقلته - . 
ولا يصح عنهما ; لأنه عمن لم يسم عنهما إلا أنه صحيح عن الزهري  ،  وأبي الزناد  ، ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . 
وقد خالف الحنفيون ، والمالكيون ، والشافعيون في هذا ما صح عن  ابن الزبير  ، ولم يصح قط عن أحد من الصحابة خلافه . 
ولا حجة لهم فيما روي عن  معاوية    ; لأنه ليس فيه : أن الغرامة في مال المجنون ، ولا أنها على عاقلته : إنما فيها : أنه أمر مروان  بأن يعقله - وظاهر الأمر أنه عقله من بيت  [ ص: 219 ] المال ، ولو فعل الإمام هذا لكان حسنا ، وليس واجبا - وهذا ما خالفوا فيه النصوص ، ومما صح عن الصاحب الذي لا يصح لقوله خلاف عن أحد منهم ، والقياس : إذ قاسوا ما جنى المجنون القاصد على ضده - وهو ما جناه العاقل المخطئ - ولم يقيسوا إسقاط الدية على إسقاطهم الكفارة في ذلك - وبالله تعالى التوفيق . 
فأما السكران فروينا عن  علي بن أبي طالب    : أن سكارى تضاربوا بالسكاكين . وهم أربعة فجرح اثنان ، ومات اثنان : فجعل  علي  دية الاثنين المقتولين على قبائلهما ، وعلى قبائل اللذين لم يموتا ، وقاص الحيين من ذلك بدية جراحهما - وأن  الحسن بن علي  رأى أن يقيد للحيين للميتين ولم ير  علي  ذلك ، وقال : لعل الميتين قتل كل واحد منهما الآخر - وهذا لا يصح عن  علي    ; لأنه من طريق فيها سماك بن حرب  عن رجل مجهول ، رواه  حماد بن سلمة  عن  سماك  ، فقال : عن عبيد بن القعقاع    . 
ورواه  أبو الأحوص  عن  سماك  فقال : عن عبد الرحمن بن القعقاع  ، وكلاهما لا يدرى من هو -  وسماك  يقبل التلقين . 
ولو صح لكان مخالفا لقول الحنفيين ، والشافعيين ، والمالكيين . 
ومن طريق  يحيى بن سعيد الأنصاري  وعبد الرحمن بن أبي الزناد    : أن  معاوية  أقاد من السكران ، قال  ابن أبي الزناد    : وكان القاتل محمد بن النعمان الأنصاري    - والمقتول عمارة بن زيد بن ثابت    . قال  أبو محمد  رضي الله عنه : وهذا لا يصح ; لأن يحيى لم يولد إلا بعد موت  معاوية  ، وعبد الرحمن بن أبي الزناد  في غاية الضعف ، أول من ضعفه :  مالك  ، ولا نعلم في هذا الباب عن أحد من الصحابة شيئا غير ما ذكرنا - وصح عن الزهري  ،  وربيعة    . 
وبه يقول  أبو حنيفة  ،  ومالك  ،  والشافعي    : يقاد من السكران - ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا مما خالفوا فيه النصوص وما روي عن الصحابة ، والقياس ، كما ذكرنا . 
 [ ص: 220 ] قال  أبو محمد  رضي الله عنه : روينا من طريق  عبد الرزاق  عن  ابن جريج  أخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز    : أن في كتاب لأبيه عن  عمر بن الخطاب  قال : لا قود ، ولا قصاص ، ولا حد ، ولا جراح ، ولا قتل ، ولا نكال على من لم يبلغ الحلم حتى يعلم ما له في الإسلام ، وما عليه . 
وقد صح عن  عثمان بن عفان    : أن السكران لا يلزمه طلاق - فصح أنه عنده بمنزلة المجنون - وبهذا يقول  أبو سليمان  ،  والمزني  ،  والطحاوي  ، وغيرهم . 
وإيجاب الغرامة شرع ، فإذا كان بغير نص قرآن أو سنة - فهو شرع من الدين لم يأذن به الله - ونعوذ بالله من هذا . 
قال  أبو محمد  رضي الله عنه : إلا أن من فعل هذا من الصبيان ، أو المجانين ، أو السكارى في : دم ، أو جرح ، أو مال : ففرض ثقافه في بيت ليكف أذاه ، حتى يتوب السكران ، ويفيق المجنون ، ويبلغ الصبي . 
لقول الله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان    } وتثقيفهم تعاون على البر والتقوى ، وإهمالهم تعاون على الإثم والعدوان - وبالله تعالى التوفيق . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					