590 - مسألة : وإذا مات المحرم ما بين أن يحرم إلى أن تطلع الشمس من يوم النحر  إن كان حاجا ، أو أن يتم طوافه وسعيه ، إن كان معتمرا - : فإن الفرض أن يغسل بماء وسدر فقط - إن وجد السدر - . 
ولا يمس بكافور ولا بطيب ، ولا يغطى وجهه ، ولا رأسه ؟ ولا يكفن إلا في ثياب إحرامه فقط  ، أو في ثوبين غير ثياب إحرامه . 
وإن كانت امرأة فكذلك ، إلا أن رأسها تغطى ويكشف وجهها ، ولو أسدل عليه من فوق رأسها فلا بأس من غير أن تقنع ؟ فمن مات من محرم ، أو محرمة بعد طلوع الشمس من يوم النحر  فكسائر الموتى ، رمى الجمار أو لم يرمها ؟ 
وقال  أبو حنيفة  ،  ومالك    : هما كسائر الموتى في كل ذلك - :  [ ص: 375 ] برهان قولنا - : ما رويناه من طريق أحمد بن شعيب   أنا محمد بن بشار  نا  محمد بن جعفر   نا  شعبة  سمعت أبا بشر هو جعفر بن أبي وحشية    - عن  سعيد بن جبير  عن  ابن عباس    { أن رجلا وقع عن راحلته فأقصعته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اغسلوه بماء وسدر ، ويكفن في ثوبين ، خارج رأسه ووجهه ، فإنه يبعث يوم القيامة يلبي   } ومن طريق أحمد بن شعيب   أنا عبدة بن عبد الله البصري  أنا أبو داود هو الحفري -  عن  سفيان هو الثوري -  عن عمرو بن دينار  عن  سعيد بن جبير  عن  ابن عباس    { مات رجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم غسلوه بماء وسدر ، وكفنوه في ثيابه ، ولا تخمروا وجهه ولا رأسه ، فإنه يبعث يوم القيامة يلبي   } . 
ومن طريق  البخاري  نا  قتيبة  نا  حماد بن زيد  عن  أيوب السختياني  عن  سعيد بن جبير  عن  ابن عباس  قال { بينما رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة  ، إذ وقع من راحلته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اغسلوه بماء وسدر ، وكفنوه في ثوبين ، ولا تحنطوه ، ولا تخمروا رأسه ، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا   } . 
ومن طريق  البخاري  نا  أبو النعمان هو محمد بن الفضل عارم    - نا أبو عوانة  عن أبي بشر عن  سعيد بن جبير  عن  ابن عباس    { أن رجلا وقصه بعيره ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اغسلوه بماء وسدر ، وكفنوه في ثوبين ، ولا تمسوه طيبا ، ولا تخمروا رأسه ، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبدا   } . 
 [ ص: 376 ] ومن طريق  أبي داود السجستاني  نا  عثمان بن أبي شيبة  نا  جرير هو ابن عبد الحميد -  عن  منصور هو ابن المعتمر -  عن الحكم هو ابن عيينة -  عن  سعيد بن جبير  عن  ابن عباس  قال { وقصت برجل محرم ناقته فقتلته ، فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اغسلوه وكفنوه ولا تغطوا رأسه ولا تقربوه طيبا ، فإنه يبعث يهل   } . 
فهذا لا يسع أحدا خلافه ، لأنه كالشمس صحة ، رواه  شعبة  ، وسفيان  ، وأبو عوانة  ، ومنصور  ،  وحماد بن زيد    . ورواه قبلهم  أبو بشر  ، وعمرو بن دينار  ، والحكم  ، وأيوب  ، وأئمة المسلمين كلهم ، عن  سعيد بن جبير  عن  ابن عباس    : أنه شهد القصة في حجة الوداع ، آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحت ألفاظ هذا الخبر كلها ، فلا يحل ترك شيء منها 
، وأمر عليه السلام بذلك في محرم سئل عنه ، والمحرم يعم الرجل والمرأة ، والبعث والتلبية يجمعهما ، وبهما جاء الأثر ، والسبب المنصوص عليه في الحكم . 
فإن قيل : إنكم تجيزون للمحرم الحق أن يغطي وجهه ، وتمنعون ذلك الميت ؟ قلنا : نعم ، للنصوص الواردة في ذلك ، ولا يحل الاعتراض على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يأمر المحرم الحي بكشف وجهه ، وأمر بذلك في الميت ، فوقفنا عند أمره عليه السلام ، { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى    } 
وما ندري من أين وقع لهم أن لا يفرق الله تعالى بين حكم المحرم الحي والمحرم الميت ؟ أم في أي سنة وجدوا ذلك أم في أي دليل عقل ؟ 
ثم هم أول قائلين بهذا نفسه ، فيفرقون بين حكم المحرم الحي والمحرم الميت بآرائهم الفاسدة ، وينكرون ذلك على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم . 
وقال بعضهم هذا : خصوص لذلك المحرم . فقلنا : هذا الكذب منكم ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أفتى بذلك في المحرم يموت إذ  [ ص: 377 ] سئل عنه ، كما أفتى في المستحاضة ، وكما أفتى  أم سلمة  في أن لا تحل ضفر رأسها في غسل الجنابة وسائر ما استفتي فيه عليه السلام ؟ فأفتى فيه فكان عموما ؟ . 
ومن عجائب الدنيا أنهم أتوا إلى قوله عليه السلام { فإنه يبعث ملبدا   } " ويلبي " " ويهل " فلم يستعملوه ، وأوقفوه على إنسان بعينه ، وأتوا إلى ما خصه عليه السلام من البر ، والشعير والتمر ، والملح ، والذهب ، والفضة - : فتعدوا بحكمها إلى ما لم يحكم عليه السلام قط بهذا الحكم فيه فإنما أولعوا بمخالفة الأوامر المنصوص عليها ؟ وقال بعضهم : قد صح عن عائشة  أم المؤمنين ،  وابن عمر    : تحنيط المحرم إذا مات ، وتطييبه ، وتخمير رأسه  ؟ 
قلنا : وقد صح عن  عثمان  ، وغيره خلاف ذلك - : كما روينا من طريق  عبد الرزاق  نا  معمر  عن الزهري  قال : خرج  عبد الله بن الوليد  معتمرا مع  عثمان بن عفان  ، فمات بالسقيا وهو محرم ، فلم يغيب  عثمان  رأسه ، ولم يمسسه طيبا ، فأخذ الناس بذلك - : ومن طريق  عبد الرزاق  نا أبي قال : توفي عبيد بن يزيد  بالمزدلفة  وهو محرم فلم يغيب المغيرة بن حكيم  رأسه في النعش - : ومن طريق  حماد بن سلمة  عن  الحجاج بن أرطاة  عن  أبي إسحاق السبيعي  عن الحارث  عن  علي بن أبي طالب  قال في المحرم ، يغسل رأسه بالماء والسدر ، ولا يغطى رأسه ، ولا يمس طيبا ؟ وهو قول  الشافعي  ،  وأحمد بن حنبل  ،  وأبي سليمان  ، وغيرهم والعجب أن الزهري  يقول : فأخذ الناس بذلك ، وهم يدعون الإجماع في أقل من هذا كدعواهم في الحد في الخمر : ثمانين ، وغير ذلك فإن قيل : قد خالف  ابن عمر   عثمان  بعد ذلك ، فبطل أن يكون إجماعا ؟ 
قلنا : وقد خالف :  عثمان  ،  وعلي  ،  والحسن  ،  وعبد الله بن جعفر    : في حد الخمر بعد  عمر  ، فبطل أن يكون إجماعا ؟ وإذا تنازع السلف فالفرض علينا رد ما تنازعوا فيه إلى القرآن والسنة لا إلى قول أحد دونهما ؟ 
 [ ص: 378 ] ومن طرائف الدنيا احتجاجهم في هذا بما رويناه من طريق  عبد الرزاق  عن  ابن جريج  عن  عطاء  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { خمروا وجوههم ، ولا تشبهوا باليهود   } . 
وهذا باطل لوجوه - : أولها - أنه مرسل ، ولا حجة في مرسل ؟ والثاني - أنه ليس فيه نص ولا دليل - لو صح - على أنه في المحرم أصلا ، بل كان يكون في سائر الموتى ؟ وثالثها - أنه لا يجوز أن يقوله عليه السلام أصلا ; لأنه عليه السلام لا يقول إلا الحق ، واليهود  لا تكشف وجوه موتاها . 
فصح أنه باطل ، سمعه  عطاء  ممن لا خير فيه أو ممن وهم والرابع - : أنه لو صح مسندا في المحرمين لما كانت فيه حجة ; لأن خبر  ابن عباس  هو الآخر بلا شك ، ومن المحال أن يقول عليه السلام في أمر أمر به أنه تشبه باليهود ، وجائز أن ينهى عن التشبه باليهود قبل أن ينزل عليه الوحي ، ثم يأمر بمثل ذلك الفعل ، لا تشبها بهم كما قال عليه السلام في قول اليهودية في عذاب القبر ، ثم أتاه الوحي بصحة عذاب القبر 
واحتج بعضهم في هذا بالخبر الثابت { إذا مات الميت انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم علمه ، وولد صالح يدعو له   } . 
وهذا لا حجة لهم فيه أصلا ; لأنه إنما فيه أنه انقطع عمله ، وهكذا نقول ، وليس فيه أنه ينقطع عمل غيره فيه ، بل غيره مأمور فيه بأعمال مفترضة ، من غسل ، وصلاة ، ودفن ، وغير ذلك ، وهذا العمل ليس هو عمل المحرم الميت ، إنما هو عمل الأحياء - فظهر تخليطهم وتمويههم واحتج بعضهم بقول الله تعالى :  [ ص: 379 ]   { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى    } 
وهذه إحالة منهم للكلم عن مواضعه ، ولم نقل قط : إن هذا من سعي الميت ، ولكنه من سعي الأحياء المأمور به في الميت كما أمرنا بأن لا نغسل الشهيد ولا نكفنه ، وأن ندفنه في ثيابه ، وليس هو عمل الشهيد ولا سعيه ، لكنه عملنا فيه وسعينا لأنفسنا الذي أمرنا به فيه ولا فرق ؟ 
والقول متحكمون بالآراء الفاسدة ولا مزيد إلا إن كانوا يحومون حول أن يعترضوا بهذا كله على قول النبي صلى الله عليه وسلم : { فإنه يبعث ملبدا   } " يلبي " " ويهل " فهذا ردة ؟ 
ولا فرق بين قوله عليه السلام { إن المحرم يبعث يوم القيامة يلبي ويهل وملبدا   } وبين قوله عليه السلام { إن من يكلم في سبيل الله يأتي يوم القيامة يثعب دما ، اللون لون الدم ، والريح ريح المسك   } . 
وكل هذه فضائل لا تنسخ ولا ترد ، والقوم أصحاب قياس بزعمهم ، فهلا قالوا : المقتول في سبيل الله ، والميت محرما : كلاهما مات في سبيل الله تعالى ، وحكم أحدهما خلاف حكم الموتى ، فكذلك الآخر ؟ 
ولكنهم لا النصوص يتبعون ، ولا القياس يحسنون ، ولا شك في أن الشبه بين الجهاد ، والحج أقرب من الشبه بين السرقة ، والنكاح 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					