وسئل  محمد  رحمه الله عمن يقول : وسلطان الله لا يفعل كذا  فقال : لا أدري ما هذا ، من حلف بهذا فقد أشار إلى عدم العرف ، والصحيح من الجواب في هذا الفصل أنه إذا أراد بالسلطان القدرة فهو يمين ، كقوله : وقدرة الله ، ولو جعل عليه حجة أو عمرة أو صوما أو صلاة أو صدقة ، أو ما أشبه ذلك مما هو طاعة إن فعل كذا  ففعل لزمه ذلك الذي جعله على نفسه ، ولم يجب كفارة اليمين فيه في ظاهر الرواية عندنا ، وقد روي عن  محمد  رحمه الله تعالى قال : إن علق النذر بشرط  يريد كونه ، كقوله : إن شفى الله مريضي ، أو رد غائبي لا يخرج عنه بالكفارة ، وإن علق بشرط لا يريد كونه كدخول الدار ونحوه ، يتخير بين الكفارة وبين عين ما التزمه ، وهو قول  الشافعي  رحمه الله تعالى في الجديد ، وقد كان يقول في القديم : يتعين عليه  [ ص: 136 ] كفارة اليمين ، وروي أن  أبا حنيفة  رحمه الله تعالى رجع إلى التخيير أيضا ، فإن عبد العزيز بن خالد الترمذي  رضي الله عنه قال : خرجت حاجا فلما دخلت الكوفة  قرأت كتاب النذور والكفارات على  أبي حنيفة  رحمه الله تعالى ، فلما انتهيت إلى هذه المسألة ، فقال : قف فإن من رأيي أن أرجع ، فلما رجعت من الحج إذا  أبو حنيفة  رحمه الله تعالى قد توفي ، فأخبرني الوليد بن أبان  رحمه الله أنه رجع عنه قبل موته بسبعة أيام ، وقال : يتخير وبهذا كان يفتي إسماعيل الزاهد  رحمه الله قال رضي الله عنه : وهو اختياري أيضا لكثرة البلوى في زماننا ، وكان من مذهب  عمر  وعائشة  رضي الله عنهما أنه يخرج عنه بالكفارة ، ومن مذهب  عبد الله بن عمر   وعبد الله بن عباس   وعبد الله بن الزبير  رضي الله عنهم أنه لا يخرج عنه بالكفارة ، حتى كان  ابن عمر  يقول : لا أعرف في النذر إلا الوفاء ، وأما وجه قوله الأول ، قوله صلى الله عليه وسلم {   : من نذر نذرا وسمى فعليه الوفاء بما سمى ، ومن نذر نذرا ولم يسم فعليه كفارة يمين   } . 
والمعنى فيه أنه علق بالشرط ما يصح التزامه في الذمة ، فعند وجود الشرط يصير كالمنجز ، ولو نجز النذر لم يخرج عنه بالكفارة . 
ألا ترى أن الطلاق المعلق بالشرط يجعل عند وجود الشرط كالمنجز ، فهذا مثله ، وتحقيق هذا ، وهو أن معنى اليمين لا يوجد هنا ; لأنه ليس فيه تعظيم المقسم به ; لأنه جعل دخول الدار علامة التزام الصوم والصلاة ، وفي الالتزام معنى القربة ، والمسلم لا يكون ممتنعا من التزام القربة . توضيحه : أن الكفارة تجب لمعنى الحظر ; لأنها ستارة للذنب ، ومعنى الحظر لا يوجد هنا ، وفي القول بالخيار له تخيير بين القليل والكثير في جنس واحد ، حتى إذا قال : إن دخلت الدار فعلي طعام ألف مسكين  ، فمن يقول بالخيار يخيره بين إطعام عشرة مساكين ، وبين إطعام ألف مسكين ، وكذا العتق والكسوة ، وإن قال المعسر : إن دخلت الدار فعلي صوم سنة  ، يخيره بين صوم سنة ، وبين صوم ثلاثة أيام ، والتخيير بين القليل والكثير في جنس واحد غير مفيد شرعا ، فلا يجوز أن يكون حكما شرعيا ، ووجه قوله الآخر قوله {   : النذر يمين وكفارته كفارة اليمين   } ، فيحمل هذا النذر المعلق بالشرط ، وما رووه على النذر المرسل أو المعلق بما يريد كونه ليكون جمعا بين الأخبار ، والمعنى فيه أن كلامه يشتمل على معنى النذر واليمين جميعا ، أما معنى النذر فظاهر ، وأما معنى اليمين ; فلأنه قصد بيمينه هذا منع نفسه عن إيجاد الشرط ; لأن الإنسان يمتنع من التزام هذه الطاعات بالنذر مخافة أن لا يفي بها ، فيلحقه الوعيد الذي ذكره الله تعالى في قوله {    : ورهبانية ابتدعوها  [ ص: 137 ] ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله    } إلى قوله {    : وكثير منهم فاسقون    } ، فإذا جعل دخول الدار علامة التزام ما يكون ممتنعا من التزامه ، يكون يمينا ، وكذلك من حيث العرف يسمى يمينا . 
يقال : حلف بالنذر فلوجود اسم اليمين ، ومعناها قلنا يخرج بالكفارة ، ولوجود معنى النذر قلنا : يخرج عنه بعين ما التزمه بخلاف النذر المرسل ، فاسم اليمين ومعناها غير موجود فيه ، وكذلك المعلق بشرط يريد كونه ; لأن معنى اليمين غير موجود فيه ، وهو القصد إلى المنع بل قصده إظهار الرغبة فيما جعله شرطا ، يقرر هذا أن معنى الحظر يتحقق هنا ; لأن الالتزام بالنذر قربة بشرط أن يفي بما وعد ، فأما بدون الوفاء يكون معصية . قال الله تعالى {    : لم تقولون ما لا تفعلون    } ، وقال الله تعالى {    : ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن    } الآية ، ولا يدري أنه هل يفي بهذا أو لا يفي فيكون مترددا دائرا بين الحظر والإباحة بمنزلة اليمين بالله تعالى فيصلح سببا لوجوب الكفارة ، ( فإن قيل ) : هذا في النذر المرسل موجود . ( قلنا ) : نعم ولكن لا بد من اعتبار اسم اليمين لإيجاب الكفارة ; لأنها تسمى كفارة اليمين ، واسم اليمين لا يوجد في النذر المرسل ، ومنهم من يقول : هو يمين يتوقف موجبها على تنفيذ من جهته فيخرج عنها بالكفارة كاليمين بالله تعالى بخلاف اليمين بالطلاق والعتاق ، فإنه لا يتوقف موجبها على تنفيذ من جهته ، بل بوجود الشرط يقع الطلاق والعتاق ، ولو شرعت الكفارة فيها كانت لرفع ما وقع من الطلاق والعتاق ، وذلك غير مشروع هنا ، ولو شرعت الكفارة كانت مشروعة خلفا عن البر ليصير كأنه تم على بره ، وذلك مشروع ، فإنه لو تم على بره لا يلزمه شيء ، والتخيير بين القليل والكثير في الجنس الواحد باعتبار معنيين مختلفين جائز كالعبد إذا أذن له مولاه بأداء الجمعة ، ويتخير بين أداء الجمعة ركعتين وبين الظهر أربعا فهذا مثله . 
وكذلك إذا حلف بالمشي إلى بيت الله تعالى إن فعل كذا ففعل ذلك الفعل  لم يلزمه شيء في القياس ; لأنه إنما يجب بالنذر ما يكون من جنسه واجب شرعا ، والمشي إلى بيت الله ليس بواجب شرعا ; ولأنه لا يلزمه عين ما التزمه وهو المشي ، فلأن لا يلزمه شيء آخر أولى وهو الحج أو العمرة ، وفي الاستحسان يلزمه حجة أو عمرة ، وهكذا روي عن  علي  رضي الله عنه ; ولأنه في عرف الناس يذكر هذا اللفظ بمعنى التزام الحج والعمرة ، وفي النذور والأيمان يعتبر العرف ، فجعلنا هذا عبارة عن التزام حج أو عمرة مجازا ; لأن المقصود بالكلام استعمال الناس لإظهار ما في باطنهم ، فإذا صار اللفظ في شيء مستعملا مجازا يجعل كالحقيقة في ذلك الشيء ، ثم يتخير بين الحج  [ ص: 138 ] والعمرة ; لأنهما النسكان المتعلقان بالبيت  لا يتوصل إلى أدائهما إلا بالإحرام ، وإلا بالذهاب إلى ذلك الموضع ، ثم يتخير إن شاء مشى ، وإن شاء ركب وأراق دما لحديث  عقبة بن عامر  أنه قال : يا رسول الله { إن أختي نذرت أن تحج ماشية ، فقال صلى الله عليه وسلم : إن الله غني عن تعذيب أختك ، مرها فلتركب ولترق دما   } ; ولأن النسك بصفة المشي يكون إثم على ما روي أن  عبد الله بن عباس  رضي الله عنهما بعدما كف بصره كان يقول : لا أتأسف على شيء كتأسفي على أن أحج ماشيا ، فإن الله تعالى قدم المشاة فقال {    : يأتوك رجالا وعلى كل ضامر    } ، فإذا ركب فقد أدخل فيه نقصا ، ونقائص النسك تجبر بالدم ، وإن اختار المشي فالصحيح من الجواب أنه يمشي من بيته إلى أن يفرغ من أفعال الحج ، وما سواه فيه من الكلام قد بيناه في المناسك ، وقد ذكرنا أنه ثمان فصول في ثلاث يلزم بلا خلاف في المشي إلى بيت الله تعالى أو الكعبة  أو مكة  ، وفي ثلاث لا يلزمه شيء بالاتفاق ، وهو إذا نذر الذهاب إلى مكة  ، أو السفر إلى مكة  ، أو الركوب  وفي فصلين خلاف ، وهو ما إذا نذر المشي إلى الحرم  أو المسجد الحرام     . كان  أبو حنيفة  رحمه الله تعالى يأخذ فيهما بالقياس ، وهما   بالاستحسان . 
ولو حلف بالمشي إلى بيت الله ، وهو ينوي مسجدا من المساجد سوى المسجد الحرام   لم يلزمه شيء ; لأن المنوي من محتملات لفظه ، فالمساجد كلها بيوت الله تعالى على معنى أنها تجردت عن حقوق العباد فصارت معدة لإقامة الطاعة فيها لله تعالى فإذا عملت نيته صار المنوي كالملفوظ به ، وسائر المساجد يتوصل إليها بغير إحرام ، فلا يلزمه بالتزام المشي إليها شيء ، ومسجد بيت المقدس  ومسجد المدينة  في ذلك سواء عندنا بخلاف المسجد الحرام  ، فإنه لا يتوصل إليه بالإحرام ، والملتزم بالإحرام يلزمه أحد النسكين المختص أداؤهما بالإحرام ، وهو الحج أو العمرة ، وإذا قال : أنا أحرم إن فعلت كذا ، أو أنا محرم أو أهدي أو أمشي إلى البيت ، وهو يريد أن يعد من نفسه عدة ولا يوجب شيئا  ، فليس عليه شيء ; لأن ظاهر كلامه وعد فإنه يخبر عن فعل يفعله في المستقبل ، والوعد فيه غير ملزم ، وإنما يندب إلى الوفاء بما هو قربة منه من غير أن يكون ذلك دينا عليه ، وإن أراد الإيجاب لزمه ما قال ; لأن المنوي من محتملات لفظه ، فإن الفعل الذي يفعله في المستقبل قد يكون واجبا ، وقد يكون غير واجب فإذا أراد الإيجاب فقد خص أحد النوعين بنيته ، وتعليقه بالشرط دليل على الإيجاب أيضا ; لأنه يدل على أنه يثبت عند وجود الشرط ما لم يكن ثابتا من قبل ، وهو الوجوب دون التمكن من الفعل ، فإنه لا يختلف بوجود الشرط  [ ص: 139 ] وعدمه ، وإن لم يكن له نية ففي القياس لا يلزمه شيء ; لأن ظاهر لفظه عدة ; ولأن الوجوب بالشك لا يثبت ، وفي الاستحسان يلزمه ما قال ; لأن العرف بين الناس أنهم يريدون بهذا اللفظ الإيجاب ، ومطلق الكلام محمول على المتعارف ، والتعليق بالشرط دليل الإيجاب أيضا ، وإنما ذكر  محمد  رحمه الله تعالى القياس والاستحسان في المناسك . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					