يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما
[ ص: 394 ] قوله تعالى : يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها الآية . وهذا أمر من الله لنبيه أن يخبر أزواجه ، واختلف أهل التأويل في تخييره لهن على قولين :
أحدهما : خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن واختيار الآخرة فيمسكهن ، ولم يخيرهن في الطلاق ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : أنه خيرهن بين الطلاق أو المقام معه ، وهذا قول عائشة رضي الله عنها وعكرمة والشعبي ومقاتل .
روى عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس قال : قالت عائشة رضي الله عنها : أنزلت آية التخيير فبدأني أول امرأة من نسائه ، فقال : (إني ذاكر أمرا ولا عليك ألا تعملي حتى تستأمري أبويك) وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت : ثم تلا آية التخيير فقالت: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة . ثم خير نساءه كلهن فقلن مثل قولي . وقال سعيد بن جبير : إلا الحميرية فإنها اختارت نفسها .
واختلف في السبب الذي لأجله خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه على خمسة أقاويل :
أحدها : لأن الله تعالى خير نبيه بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة ، فاختار الآخرة على الدنيا وقال : اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة [ ص: 395 ] المساكين فلما اختار ذلك أمره الله تعالى بتخيير نسائه ليكن على مثل حاله إن كان اختيارهن مثل ما اختاره . حكاه أبو القاسم الصيمري .
الثاني : لأنهن تغايرن عليه ، فروت عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت : حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهجرننا شهرا، فدخل علي بعد صبحة تسعة وعشرين ، فقلت يا رسول الله : ألم تكن حلفت لتهجرننا شهرا؟ فقال : (إن الشهر هكذا وهكذا وهكذا ، ثم خنس الإبهام ، ثم قال يا عائشة : (إني ذاكر لك أمرا ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستشيري أبويك وخشي حداثة سني قلت : وما ذاك؟ قال (أمرت أن أخيركن) .
الثالث : أن أزواجه طالبنه وكان غير مستطيع فكان أولهن أم سلمة فسألته سترا معلما ، فلم يقدر عليه ، وسألته ميمونة حلة يمانية ، وسألته زينب بنت جحش ثوبا مخططا وهو البرد اليماني ، وسألته أم حبيبة ثوبا سحوليا ، وسألته حفصة ثوبا من ثياب مصر ، وسألته جويرية معجزا ، وسألته سودة قطيفة جبيرية ، وكل واحدة منهن طلبت نصيبا إلا عائشة لم تطلب شيئا ، فأمر الله تعالى بتخييرهن ، حكاه النقاش .
الرابع : لأن أزواجه اجتمعن يوما فقلن : نريد ما تريد النساء من الحلي والثياب حتى قال بعضهن : لو كنا عند غير النبي صلى الله عليه وسلم إذن لكان لنا شأن وثياب وحلي ، فأنزل الله تعالى آية التخيير ، حكاه النقاش .
الخامس : لأن الله تعالى صان خلوة نبيه فخيرهن على ألا يتزوجن بعده ، فلما أجبن إلى ذلك أمسكهن . قال مقاتل بن حيان : قاله الحسن وقتادة : وكان تحته يومئذ [ ص: 396 ] تسع سوى الحميرية ، خمس من قريش : عائشة وحفصة وأم حبيبة بنت أبي سفيان وأم سلمة بنت أبي أمية وسودة بنت زمعة ، هؤلاء خمس من قريش ، وكان تحته صفية بنت حيي بن أخطب الحميرية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية . فلما اخترنه والصبر معه على ما يلاقيه من شدة ورخاء عوضهن الله تعالى على صبرهن بأمرهن بأمرين :
أحدهما : بأن يجعلهن أمهات المؤمنين فقال تعالى : وأزواجه أمهاتهم تعظيما لحقوقهن وتأكيدا لحرمتهن .
الثاني : أن حظر عليهن طلاقهن والاستبدال بهن فقال لا يحل لك النساء من بعد الآية . فكان تحريم طلاقهن مستداما . وأما تحريم التزويج عليهن فقد كان ذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في شدته وقلة مكنته .
ثم اختلف الناس بعد سعة الدنيا عليه هل أحل الله له النساء على قولين :
أحدهما : أنه كان تحريمه عليهن باقيا لأن الله تعالى جعله جزاء لصبرهن .
الثاني : أن الله تعالى أحل له النساء أن يتزوج عليهن عند اتساع الدنيا عليه ، لأن علة التحريم الضيق والشدة ، فإذا زالت زال موجبها . قالت عائشة رضي الله عنها: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء ، يعني اللاتي حظرن عليه ، وقيل إن الناسخ لتحريمهن قوله عز وجل : يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك الآية .
فأما غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يلزمهم تخيير نسائهم، فإن خيروهن فقد اختلف الفقهاء في حكمهن على ثلاثة مذاهب :
أحدها : إن اخترن الزوج فلا فرقة ، وإن اخترن أنفسهن كانت تطليقة رجعية ، وهذا قول الزهري وعائشة والشافعي .
الثاني : إن اخترن الزوج فهي تطليقة وله الرجعة ، وإن اخترن أنفسهن فهي تطليقة بائن والزوج كأحد الخطاب ، وهذا قول علي رضي الله عنه .
الثالث : إن اخترن الزوج فهي تطليقة والزوج كأحد الخطاب ، وإن اخترن أنفسهن فهي ثلاث ولا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ، وهذا قول زيد بن ثابت .
[ ص: 397 ]


