[ ص: 445 ] وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين   لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين   
" أم" هي المنقطعة : نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره ، فقال : ما لي لا أرى الهدهد  على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك ، ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : أهو غائب ؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له . ونحوه قولهم : إنها لإبل أم شاء ، وذكر من قصة الهدهد أن سليمان  حين تم له بناء بيت المقدس  تجهز للحج بحشرة ، فوافى الحرم  وأقام به ما شاء ، وكان يقرب كل يوم طول مقامه بخمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة ، ثم عزم على السير إلى اليمن  فخرج من مكة  صباحا يؤم سهيلا ؛ فوافى صنعاء  وقت الزوال ؛ وذلك مسيرة شهر ، فرأى أرضا حسناء أعجبته خضرتها ، فنزل ليتغدى ويصلي فلم يجدوا الماء ، وكان الهدهد قناقنه ، وكان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة فيجيء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب ويستخرجون الماء فتفقده لذلك ، وحين نزل سليمان  حلق الهدهد فرأى هدهدا واقعا ، فانحط إليه فوصف له ملك سليمان  وما سخر له من كل شيء ، وذكر له صاحبه ملك بلقيس  ، وأن تحت يدها اثني عشر ألف قائد تحت كل قائد مائة ألف وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر ، وذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان  فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه ، ثم قال لسيد الطير وهو العقاب : علي به ، فارتفعت فنظرت ، فإذا هو مقبل فقصدته ، فناشدها الله وقال : بحق الله الذي قواك وأقدرك علي إلا رحمتيني ، فتركته وقالت : ثكلتك أمك ، إن نبي الله قد حلف ليعذبنك ؛ قال : وما استثنى ؟ قالت : بلى قال : أوليأتيني بعذر مبين ، فلما قرب من سليمان  أرخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض تواضعا له ، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه . فقال : يا نبي الله ؛ اذكر وقوفك بين يدي الله : فارتعد سليمان  وعفا عنه ؛ ثم سأله ، تعذيبه : أن يؤدب بما يحتمله حاله ليعتبر به أبناء جنسه . وقيل : كان عذاب سليمان  للطير أن ينتف ريشه ويشمسه . وقيل : أن يطلى بالقطران ويشمس . وقيل : أن يلقى للنمل تأكله . وقيل : إيداعه القفص . وقيل : التفريق بينه وبين إلفه . وقيل : لألزمنه صحبة الأضداد . وعن بعضهم : أضيق السجون معاشرة  [ ص: 446 ] الأضداد . وقيل : لألزمنه خدمة أقرانه . فإن قلت : من أين حل له تعذيب الهدهد ؟ قلت : يجوز أن يبيح له الله ذلك . لما رأى فيه من المصلحة والمنفعة ؛ كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع ؛ وإذا سخر له الطير ولم يتم ما سخر له من أجله إلا بالتأديب والسياسة ؛ جاز أن يباح له ما يستصلح به . وقرئ : "ليأتينني " . و "ليأتينن " . والسلطان : الحجة والعذر . فإن قلت : قد حلف على أحد ثلاثة أشياء : فحلفه على فعليه لا مقال فيه ، ولكن كيف صح حلفه على فعل الهدهد ؟ ومن أين درى أنه يأتي بسلطان ، حتى يقول والله ليأتيني بسلطان ؟ قلت : لما نظم الثلاثة "بأو" في الحكم الذي هو الحلف : آل كلامه إلى قولك : ليكونن أحد الأمور ، يعني : إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح ، وإن لم يكن كان أحدهما ، وليس في هذا ادعاء دراية ، على أنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحي من الله بأنه سيأتيه بسلطان مبين ، فثلث بقوله : أو ليأتيني بسلطان مبين  عن دراية وإيقان . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					