ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن ، وتفصيلا لكل شيء ، وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون    . . 
هذا الكلام معطوف بثم على ما قبله . . وتأويله : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا . .  وأن هذا صراطي مستقيما   . . معطوفة على جملة : ألا تشركوا . . ثم آتينا موسى الكتاب . .  معطوف عليهما كذلك باعتباره من القول الذي دعاهم ليقوله لهم - صلى الله عليه وسلم - فالسياق مطرد كما أسلفنا . 
وقوله تماما على الذي أحسن   . . تأويله - كما اختار ابن جرير - : ثم آتينا موسى التوراة تماما لنعمنا عنده ، وأيادينا قبله ، تتم به كرامتنا عليه ، على إحسانه وطاعته ربه ، وقيامه بما كلفه من شرائع دينه ، وتبيينا لكل ما بقومه وأتباعه إليه الحاجة من أمر دينهم . . 
وقوله : وتفصيلا لكل شيء   . كما قال  قتادة   : فيه حلاله وحرامه . 
وهدى ورحمة لعل قومه يهتدون ويؤمنون بلقاء ربهم فيرحمهم من عذابه . . 
. . هذا الغرض الذي من أجله آتينا موسى  الكتاب ، جاء من أجله كتابكم ، لعلكم تنالون به الهدى والرحمة : 
وهذا كتاب أنزلناه مبارك ، فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون   . . 
وإنه لكتاب مبارك حقا - كما فسرنا ذلك من قبل عند ورود هذا النص في السورة أول مرة : وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ، ولتنذر أم القرى ومن حولها ، والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ، وهم على صلاتهم يحافظون   . . (الآية : 92 ) . . وكان ذكر هذا الكتاب هناك بمناسبة الحديث عن العقيدة في مجالها الشامل ; وهو هنا يذكر بمناسبة الحديث عن الشريعة بنص مقارب ! ويؤمرون باتباعه ; وتناط رحمتهم من الله بهذا الاتباع . والكلام هنا بجملته في معرض الشريعة ، بعد ما تناولته أوائل السورة في معرض العقيدة . 
 [ ص: 1238 ] وقد بطلت حجتكم ، وسقطت معذرتكم ، بتنزيل هذا الكتاب المبارك إليكم ، تفصيلا لكل شيء . بحيث لا تحتاجون إلى مرجع آخر وراءه ; وبحيث لا يبقى جانب من جوانب الحياة لم يتناوله فتحتاجون أن تشرعوا له من عند أنفسكم : 
أن تقولوا : إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا . وإن كنا عن دراستهم لغافلين .   أو تقولوا : لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم . فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة . فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها؟ سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون    . . 
لقد شاء الله سبحانه أن يرسل كل رسول إلى قومه بلسانهم . . حتى إذا كانت الرسالة الأخيرة أرسل الله محمدا  خاتم النبيين للناس كافة . فهو آخر رسول من الله للبشر ، فناسب أن يكون رسولا إليهم أجمعين . 
والله - سبحانه - يقطع الحجة على العرب  أن يقولوا : إن كلا من موسى  وعيسى  إنما أرسلا إلى قومهما . ونحن كنا غافلين عن دراستهم لكتابهم ، لا علم لنا به ولا اهتمام . ولو جاء إلينا كتاب بلغتنا ، يخاطبنا وينذرنا لكنا أهدى من أهل الكتاب . . فقد جاءهم هذا الكتاب وجاءهم رسول منهم - وإن كان رسولا للناس أجمعين - وجاءهم بكتاب هو بينة في ذاته على صدقه . وهو يحمل إليهم حقائق بينة كذلك لا لبس فيها ولا غموض . وهو هدى لما هم فيه من ضلالة ، ورحمة لهم في الدنيا والآخرة . . 
فإذا كان ذلك كذلك ، فمن أشد ظلما ممن كذب بآيات الله وأعرض عنها وهي تدعوه إلى الهدى والصلاح والفلاح؟ من أشد ظلما لنفسه وللناس بصده لنفسه وللناس عن هذا الخير العظيم ، وبإفساده في الأرض بتصورات الجاهلية وتشريعاتها . . إن الذين يعرضون عن هذا الحق في طبعهم آفة تميلهم عنه ; كالآفة التي تكون في خف البعير فتجعله يصدف - أي يميل - بجسمه ولا يستقيم ! إنهم " يصدفون " عن الحق والاستقامة ، كما يصدف البعير المريض عن الاعتدال والاستقامة ! وهم مستحقون سوء العذاب بصدوفهم هذا وميلهم : 
سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون   . . 
إن التعبير القرآني يستخدم مثل هذا اللفظ ، المنقول في اللغة من حالة حسية إلى حالة معنوية ليستصحب في الحس أصل المعنى . . فيستخدم هنا لفظ " يصدف " وقد عرفنا أنه من صدف البعير إذا مال بخفه ولم يعتدل لمرض فيه ! كذلك يستخدم لفظ " يصعر خده " وهو مأخوذ من داء الصعر الذي يصيب الإبل - كما يصيب الناس - فتعرض صفحة خدها ، اضطرارا ، ولا تملك أن تحرك عنقها بيسر ، ومثله استخدام لفظ " حبطت أعمالهم " . . من حبطت الناقة إذا رعت نباتا مسموما فانتفخ بطنها ثم ماتت ! ومثلها كثير . . 
ويمضي في هذا التهديد خطوة أخرى ، للرد على ما كانوا يطلبونه من الآيات والخوارق حتى يصدقوا بهذا الكتاب . . وقد مضى مثل ذلك التهديد في أوائل السورة عند ما كانت المناسبة هناك مناسبة التكذيب بحقيقة الاعتقاد . وهو يتكرر هنا ، والمناسبة الحاضرة هي مناسبة الإعراض عن الاتباع والتقيد بشريعة الله : فقد جاء في أول السورة : وقالوا : لولا أنزل عليه ملك ! ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون   . . وجاء هنا في آخرها : 
هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك ، أو يأتي بعض آيات ربك؟ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا : قل : انتظروا إنا منتظرون   . . 
إنه التهديد الواضح الحاسم . فقد مضت سنة الله بأن يكون عذاب الاستئصال حتما إذا جاءت الخارقة  [ ص: 1239 ] ثم لم يؤمن بها المكذبون . . والله سبحانه يقول لهم : إن ما طلبوه من الخوارق لو جاءهم بعضه لقضي عليهم بعده . . وإنه يوم تأتي بعض آيات الله تكون الخاتمة التي لا ينفع بعدها إيمان ولا عمل . . لنفس لم تؤمن من قبل ، ولم تكسب عملا صالحا في إيمانها . فالعمل الصالح هو دائما قرين الإيمان وترجمته في ميزان الإسلام . 
ولقد ورد في روايات متعددة أن المقصود بقوله تعالى : يوم يأتي بعض آيات ربك  هو أشراط الساعة وعلاماتها ، التي لا ينفع بعدها إيمان ولا عمل . وعدوا من ذلك أشراطا بعينها . . ولكن تأويل الآية على وفق السنة الجارية في هذه الحياة أولى . فقد سبق مثله في أول السورة ، وهو قوله تعالى : وقالوا لولا أنزل عليه ملك ، ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون   . . والملاحظ أن السياق يكرر وهو بصدد الكلام عن الشريعة والحاكمية ، ما جاء مثله من قبل وهو بصدد الكلام عن الإيمان والعقيدة ، وأن هذا ملحوظ ومقصود ، لتقرير حقيقة بعينها . فأولى أن نحمل هذا الذي في آخر السورة على ما جاء من مثله في أولها من تقرير سنة الله الجارية . وهو كاف في التأويل ، بدون الالتجاء إلى الإحالة على ذلك الغيب المجهول . . 
بعد ذلك يلتفت السياق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليفرده وحده بدينه وشريعته ومنهجه وطريقه عن كل الملل والنحل والشيع القائمة في الأرض - بما فيها ملة المشركين العرب   - : 
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء . إنما أمرهم إلى الله ، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون   . . 
إنه مفرق الطريق بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودينه وشريعته ومنهجه كله وبين سائر الملل والنحل . . سواء من المشركين الذين كانت تمزقهم أوهام الجاهلية وتقاليدها وعاداتها وثاراتها ، شيعا وفرقا وقبائل وعشائر وبطونا . أو من اليهود والنصارى ممن قسمتهم الخلافات المذهبية مللا ونحلا ومعسكرات ودولا . أو من غيرهم مما كان وما سيكون من مذاهب ونظريات وتصورات ومعتقدات وأوضاع وأنظمة إلى يوم الدين . 
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس من هؤلاء كلهم في شيء . . إن دينه هو الإسلام وشريعته هي التي في كتاب الله ; ومنهجه هو منهجه المستقل المتفرد المتميز . . وما يمكن أن يختلط هذا الدين بغيره من المعتقدات والتصورات ; ولا أن تختلط شريعته ونظامه بغيره من المذاهب والأوضاع والنظريات . . وما يمكن أن يكون هناك وصفان اثنان لأي شريعة أو أي وضع أو أي نظام . . إسلامي . . وشيء آخر . . ! ! ! إن الإسلام إسلام فحسب . والشريعة الإسلامية شريعة إسلامية فحسب . والنظام الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي الإسلامي إسلامي فحسب . . ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس في شيء على الإطلاق من هذا كله إلى آخر الزمان ! 
إن الوقفة الأولى للمسلم أمام أية عقيدة ليست هي الإسلام هي وقفة المفارقة والرفض منذ اللحظة الأولى . وكذلك وقفته أمام أي شرع أو نظام أو وضع ليست الحاكمية فيه لله وحده - وبالتعبير الآخر : ليست الألوهية والربوبية فيه لله وحده - إنها وقفة الرفض والتبرؤ منذ اللحظة الأولى . . قبل الدخول في أية محاولة للبحث عن مشابهات أو مخالفات بين شيء من هذا كله وبين ما في الإسلام ! 
إن الدين عند الله الإسلام . . ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس في شيء ممن فرقوا الدين فلم يلتقوا فيه على الإسلام . 
 [ ص: 1240 ] وإن الدين عند الله هو المنهج والشرع . . ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس في شيء ممن يتخذون غير منهج الله منهجا ، وغير شريعة الله شرعا . . 
الأمر هكذا جملة . وللنظرة الأولى . بدون دخول في التفصيلات ! 
وأمر هؤلاء الذين فرقوا دينهم شيعا ، وبرئ منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحكم من الله تعالى . . أمرهم بعد ذلك إلى الله ; وهو محاسبهم على ما كانوا يفعلون : 
إنما أمرهم إلى الله ، ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون   . . 
وبمناسبة الحساب والجزاء قرر الله سبحانه ما كتبه على نفسه من الرحمة في حساب عباده . فجعل لمن جاء بالحسنة وهو مؤمن - فليس مع الكفر من حسنة ! - فله عشر أمثالها . ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ; لا يظلم ربك أحدا ولا يبخسه حقه : 
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها . ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها . وهم لا يظلمون   . . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					