القول في تأويل قوله تعالى : 
[ 78 ] ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب    . 
ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم  أي : ما أسروه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين وأن الله علام الغيوب  أي : ما غاب عن العباد . 
 [ ص: 3208 ] تنبيهات : 
الأول : قال السيوطي  في ( " لباب النقول " ) : أخرج  الطبراني   وابن مردويه   وابن أبي حاتم   والبيهقي  في ( " الدلائل " ) بسند ضعيف عن  أبي أمامة  ، أن ثعلبة بن حاطب  قال : يا رسول الله ! ادع الله أن يرزقني مالا . قال : « ويحك يا ثعلبة   ! قليل تؤدي شكره ، خير من كثير لا تطيقه » . قال : والله لئن آتاني الله مالا لأوتين كل ذي حق حقه . فدعا له ، فاتخذ غنما ، فنمت حتى ضاقت عليه أزقة المدينة  ، فتنحى بها ، وكان يشهد الصلاة ثم يخرج إليها ، ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة  فتنحى بها ، وكان يشهد الصلاة ثم يخرج إليها ، ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة  ، فتنحى بها ، فكان يشهد الجمعة ثم يخرج إليها ، ثم نمت ، فتنحى بها ، فترك الجمعة والجماعات ، ثم أنزل الله على رسوله : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها  فاستعمل على الصدقات رجلين ، وكتب لهما كتابا ، فأتيا ثعلبة  ، فأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : انطلقا إلى الناس ، فإذا فرغتم فمروا بي ففعلا ، فقال : ما هذه إلا أخت الجزية ، فانطلقا ، فأنزل الله : ومنهم من عاهد الله  إلى قوله : يكذبون  الحديث . 
وأخرج  ابن جرير   وابن مردويه  ، من طريق العوفي  عن  ابن عباس  نحوه ، وفيه أنه جاء بعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته له : « إن الله منعني أن أقبل منك » ، فجعل التراب على رأسه . فقال : « هذا عملك ، قد أمرتك فلم تطعني » ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء بها إلى أبي بكر  رضي الله عنه فلم يقبلها ، وكذا  عمر   وعثمان  ، ثم إنه هلك في أيام  عثمان   . 
قال الشهاب   : مجيء ثعلبة  وحثوه التراب ، ليس للتوبة من نفاقه ، بل للعار من عدم قبول زكاته مع المسلمين ، وقوله صلوات الله عليه : « هذا عملك » ، أي : جزاء عملك ، وهو عدم إعطائه المصدقين ، مع مقالته الشنعاء . 
 [ ص: 3209 ] قال  الحاكم   : إن قيل : كيف لم تقبل صدقته وهو مكلف بالتصدق ؟ أجيب : بأنه يحتمل أن الله تعالى أمر بذلك ، كيلا يجترئ الناس على نقض العهد ، ومخالفة أمر الله تعالى ، ورد سعاة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكون لطفا في ترك البخل والنفاق . 
الثاني : قال بعض المفسرين من الزيدية   : ثمرة الآية وسبب نزولها أحكام : 
منها : أن الوفاء بالوعد واجب ، إذا تعلق العهد بواجب ، والعهد إن حمل على اليمين بالله ، فذلك ظاهر ، وإن حمل على النذر ، ففي ذلك تأكيد لما أوجب الله . 
ومنها : أن للإمام أن يفعل مثل ذلك لمصلحة ، أي : يمتنع من أخذ الواجب إذا حصل له وجه شابه الوجه الذي حصل في قصة ثعلبة   . انتهى . 
الثالث : قال السيوطي  في ( " الإكليل " ) : فيها أن إخلاف الوعد والكذب من خصال النفاق ، فيكون الوفاء والصدق من شعب الإيمان . 
وفيها المعاقبة على الذنب بما هو أشد منه لقوله : فأعقبهم نفاقا  واستدل به قوم على أن من حلف إن فعل كذا فلله علي كذا ، أنه يلزمه . 
وآخرون على أن مانع الزكاة  يعاقب بترك أخذها منه ، كما فعل بمن نزلت الآية فيه . انتهى . 
الرابع : قال الرازي   : ظاهر الآية يدل على أن نقض العهد ، وخلف الوعد ، يورث النفاق  ، فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه ، فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به . 
ومذهب  الحسن البصري  رحمه الله أنه يوجب النفاق لا محالة ، وتمسك فيه بهذه الآية ، وبقوله عليه السلام : « ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان »  . 
 [ ص: 3210 ] الخامس : دل قوله تعالى : إلى يوم يلقونه  على أن ذلك المعاهد مات منافقا . 
قال الرازي   : وهذا الخبر وقع مخبره مطابقا له ، فإنه روي أن ثعلبة  أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته فقال : « إن الله تعالى منعني أن أقبل صدقتك »  . وبقي على تلك الحالة ، وما قبل أحد من الخلفاء رضي الله عنهم صدقته حتى مات ، فكان إخبارا عن غيب ، فكان معجزا . 
السادس : الضمير في ( يلقونه ) للفظ الجلالة ، والمراد ب ( اليوم ) يوم القيامة ، وله نظائر كثيرة في التنزيل . 
وأعرب بعض المفسرين حيث قال : الضمير في ( يلقونه ) إما لله ، والمراد باليوم وقت الموت ، أو للبخل والمراد يوم القيامة والمضاف محذوف ، وهو الجزاء . انتهى . 
واللقاء إذا أضيف إلى الكفار كان لقاء مناسبا لحالهم من وقوفهم للحساب مع حجبهم عنه تعالى ، لأنهم ليسوا أهلا لرؤيته ، تقدس اسمه . 
وإذا أضيف إلى المؤمنين ، كما في قوله تعالى : تحيتهم يوم يلقونه سلام  كان لقيا مناسبا لمقامهم من رؤيته تعالى ، وذلك لما أفصحت عنه آيات أخر من حال الفريقين ، مما يتنزل مثل ذلك عليها . 
فمن وقف في بعض الآيات على لفظة ، وأخذ يستنبط منها ، ولم يراع من استعملت فيه ، وأطلقت عليه ، كان ذلك جمودا وتعصبا ، لا أخذا بيد الحق . 
نقول ذلك ردا لقول  الجبائي   : إن اللقاء في هذه الآية لا يفيد رؤيته تعالى ، للإجماع على أن الكفار لا يرونه تعالى  ، فلا يفيدها أيضا في قوله تعالى : تحيتهم يوم يلقونه سلام  
وللرازي  معه مناقشة من طريق أخرى . وما ذكرناه أمتن . والله أعلم . 
السابع : قال الرازي   : ( السر ) ما ينطوي عليه صدورهم ، و ( النجوى ) ما يفاوض فيه بعضهم بعضا فيما بينهم ، وهو مأخوذ من النجو ، وهو الكلام الخفي ، كأن المتناجيين منعا إدخال غيرهما معهما ، وتباعدا من غيرهما . 
ثم بين تعالى من مساوئ المنافقين نوعا آخر ، وهو لمزهم المتصدقين بقوله سبحانه : 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					