2483 ص: ولكل واحد منهم في مذهبه الذي ذهب إليه معنى سنبينه في هذا الباب ونذكر مع ذلك ما يجب له من طريق النظر وما يجب عليه أيضا من طريق النظر إن شاء الله تعالى.
فأما عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فالذي ذكرنا عنه من ذلك هو إتمامه الصلاة بمنى، فلم يكن ذلك لأنه أنكر التقصير في السفر، كيف يتوهم ذلك عليه وقد قال الله -عز وجل- وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة الآية.
فأباح الله لهم القصر في هذه الآية إذا خافوا أن يفتنهم الذين كفروا، ثم أخبرهم رسول الله - عليه السلام - أن ذلك واجب لهم، وإن أمنوا في حديث يعلى بن منية الذي روينا عنه عن عمر - رضي الله عنه - في أول هذا الباب، وصلى رسول الله - عليه السلام - بمنى [ ص: 392 ] ركعتين وهم أكثر ما كانوا وآمنه وعثمان - رضي الله عنه - معه، فلم يكن إتمامه الصلاة بمنى لأنه أنكر التقصير في السفر ولكن لمعنى قد اختلف فيه.
فحدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا حسين بن مهدي، قال: أنا عبد الرزاق ، قال: أنا معمر ، عن الزهري قال: "إنما صلى عثمان بمنى أربعا لأنه أزمع على المقام بعد الحج".
فأخبر الزهري في هذا الحديث أن إتمام عثمان - رضي الله عنه - إنما كان لأنه نوى الإقامة، فصار إتمامه ذلك وهو مقيم قد خرج مما كان فيه من حكم السفر ودخل في حكم الإقامة، فليس في فعله ذلك دليل على مذهبه كيف كان في الصلاة في السفر هل هو الإتمام أو التقصير؟
وقد قال الزهري أيضا غير ذلك.
فحدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا أبو عمر ، عن حماد بن سلمة ، قال: أنا أيوب ، عن الزهري قال: "إنما صلى عثمان - رضي الله عنه - بمنى أربعا لأن الناس كانوا أكثر في ذلك العام، فأحب أن يخبرهم أن الصلاة أربع".
فهذا يخبر أنه فعل ما فعل ليعلم الأعراب أن الصلاة أربع، فقد يحتمل أن يكون لما أراد أن يريهم ذلك نوى الإقامة، فصار مقيما فرضه أربع فصلى أربعا وهو مقيم بالسبب الذي حكاه معمر عن الزهري في الفصل الذي قبل هذا، ويحتمل أن يكون فعل هذا وهو مسافر لتلك العلة.
والتأويل الأول أشبه عندنا، والله أعلم ; لأن الأعراب كانوا بالصلاة وأحكامها في زمن رسول الله - عليه السلام - أجهل منهم منها وبحكمها في زمن عثمان - رضي الله عنه -، وهم بأمر الجاهلية حينئذ أحدث عهدا، فهم كانوا في زمن رسول الله - عليه السلام - إلى العلم بفرض الصلاة أحوج منهم إلى ذلك في زمن عثمان - رضي الله عنه -، فلما كان رسول الله - عليه السلام - لم يتم الصلاة لتلك العلة ولكنه قصرها ليصلوا معه صلاة السفر على حكمها ويعلمهم صلاة الإقامة على حكمها ويعلمهم كيف حكمها في [ ص: 393 ] الحضر، فقد عاد حكم معنى ما صح من تأويل حديث أيوب عن الزهري إلى معنى حديث معمر عن الزهري .
وقد قال آخرون: إنما أتم الصلاة لأنه كان يذهب إلى أنه لا يقصرها إلا من حل وارتحل، واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا أبو عمر ، قال: ثنا حماد، قال: ثنا قتادة ، قال: قال عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: "إنما يقصر الصلاة من حمل الزاد والمزاد وحل وارتحل".
حدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن عباس بن عبد الله : "أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كتب إلى عماله أن لا يصلين الركعتين جابي ولا نائي ولا تاجر، وإنما يصلي الركعتين من كان معه الزاد والمزاد".
حدثنا أبو بكرة ، قال: ثنا روح وأبو عمر ، قالا: ثنا حماد بن سلمة ، أن أيوب السختياني أخبرهم، عن أبي قلابة الجرمي ، عن عمه أبي المهلب قال: "كتب عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أنه بلغني أن قوما يخرجون إما لتجارة وإما لجباية وإما لجشر ثم يقصرون الصلاة، وإنما يقصر الصلاة من كان شاخصا أو بحضرة عدو. فقالوا: فكان مذهب عثمان - رضي الله عنه - أن لا يقصر الصلاة إلا من كان يحتاج إلى حمل الزاد والمزاد ومن كان شاخصا، فأما من كان في مصر مستغن به عن حمل الزاد والمزاد فإنه يتم الصلاة.
قالوا: ولهذا أتم هو الصلاة بمنى ; لأن أهلها في ذلك الوقت كثروا حتى صاروا مصرا يستغنى من صلى به عن حمل الزاد والمزاد.
وهذا المذهب عندنا فاسد ; لأن منى لم تصر في زمن عثمان أعمر من مكة في زمن رسول الله - عليه السلام - فقد كان رسول الله - عليه السلام - يصلي بها ركعتين، ثم صلى بها أبو بكر بعده كذلك، ثم صلى بها عمر بعد أبي بكر - رضي الله عنه - كذلك، فإذا كانت مكة مع عدم احتياج من حل بها إلى حمل الزاد والمزاد تقصر فيها الصلاة، فما دونها من المواطن أحرى أن يكون كذلك.
[ ص: 394 ] فقد اتفقت هذه المذاهب كلها لفسادها عن عثمان - رضي الله عنه - أن يكون من أجل شيء منها قصر الصلاة غير المذهب الأول الذي حكاه معمر عن الزهري ، فإنه يحتمل أن يكون من أجله أتمها، وفي ذلك الحديث أن إتمامه كان لنية الإقامة على ما روينا فيه وعلى ما كشفنا من معناه.


