قال الشيخ تقي الدين    : ولا نزاع بين العلماء أن كلام الله تعالى لا يفارق ذات الله ، ولا يباينه كلامه ، ولا شيء من صفاته  ، بل ليس صفة شيء من موصوف تباين موصوفها وتنتقل عنه إلى غيره . فكيف يتوهم عاقل أن كلام الله يباينه ، وينتقل إلى غيره ؟ ولهذا قال  أحمد    : كلام الله من الله ليس ببائن منه . وقد جاء في الأحاديث والآثار { أنه منه بدأ ، ومنه خرج ، وإليه يعود   } نصا منه ، ومن غيره عليه ، ومعنى ذلك : أنه هو المتكلم به ، أو الذي يخرج منه ، ولا يقتضي ذلك أنه يباينه وانتقل عنه . وقال : ومعلوم أن كلام المخلوق لا يباين محله . قال  أحمد    : منه بدأ وإليه يعود . وقال : منه بدأ علمه ، وإليه يعود حكمه . وقال تارة : منه خرج ، وهو المتكلم به ، وإليه يعود ، وهو القرآن . وقال تارة : القرآن من علم الله . قال  ابن جلبة  ، منا . يعني : على حد حقيقة العلوم ، وهي راجعة إلى الله ، وارتفاع القرآن دفعة واحدة عن الناس ، وترتفع تلاوته وأحكامه . فيعود إلى الله حقيقة بهما . وقال  [ ص: 191 ] الحافظ عبد الغني    : قال  علي بن أبي طالب   وعبد الله بن مسعود  ،  وابن عباس  رضي الله عنهم " القرآن كلام الله ، منه بدأ وإليه يعود " وقال  سفيان بن عيينة  سمعت  عمرو بن دينار  يقول : " أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون : القرآن كلام الله ، منه بدأ وإليه يعود " وروى الترمذي  عن  خباب بن الأرت  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إنكم لن تتقربوا إلى الله بأفضل مما خرج منه - يعني القرآن   } وذهب  أحمد  وأكثر أصحابه إلى أن القرآن هو المقروء ، والتلاوة هو المتلو ، قال  البيهقي    : وأما ما نقل عن الإمام  أحمد    : أنه سوى بينهما . فإنما أراد حسم المادة ، لئلا يتدرج أحد إلى القول بخلق القرآن . كما نقل عنه أنه أنكر على من قال : لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق . حسما للمادة انتهى . وإلا فلا يخفى الفرق بينهما . وهو ظاهر . وقال مالك الصغير ابن أبي زيد القيرواني    : إن الله مستو على عرشه بذاته . وأنه كلم موسى  بذاته  ، وأسمعه كلامه ، لا كلاما قام في غيره انتهى . وقال  الطحاوي    : إن القرآن كلام الله ، منه بدأ بلا كيفية قولا . وأنزله على رسوله وحيا  وصدقه المؤمنون على ذلك حقا ، وأيقنوا أنه كلام الله بالحقيقة ، وهو صريح . 
وقال أبو بكر بن خزيمة    - منا - لم يزل الله متكلما ، ولا مثل لكلامه  ، واستصوباه . ومن المستبعد جدا أن يكون هذا الكلام من الكتاب والسنة كله مجاز لا حقيقة فيه ، ولو في موضع واحد منه ، وبموضع واحد منه يحصل المطلوب . قال الطوفي    : فإن قيل : هو حقيقة ، ولكن كما قررناه في الكلام النفسي بالاشتراك ، كما قلتم : إن الصفات الواردة في الشرع لله سبحانه وتعالى حقيقة ، لكن مخالفة للصفات المشاهدة ، وهي مقولة بالاشتراك . قلنا : نحن اضطررنا إلى القول بالاشتراك ، في الصفات لورود نصوص الشرع الثابتة بها . فأنتم ما الذي اضطركم إلى إثبات الكلام النفسي ؟ فإن قيل : دليل العقل الدال على أنه لا صوت ولا حرف إلا من جسم ، قلنا : فما أفادكم إثباته شيئا ; لأن الكلام النفسي الذي أثبتموه لا يخرج في الحقيقة عن أن يكون علما أو تصورا ، على ما سبق تقريره عن أئمتكم .  [ ص: 192 ] فإن كان علما فقد رجعتم معتزلة ، ونفيتم الكلام بالكلية ، وموهتم على الناس بتسميتكم العلم كلاما . وإن كان تصورا ، فالتصور في الشاهد حصول صورة الشيء في العقل . وإنما يعقل في الأجسام . وإن عنيتم تصورا مخالفا للتصور في الشاهد ، لائقا بجلال الله تعالى ، فأثبتوا كلاما عبارة عن خلاف الشاهد ، لائقة بجلاله تعالى ، وهذا كلام متين لا محيد للمنصف عنه . قال  ابن حزم    : أجمع المسلمون على أن الله تعالى كلم موسى  ، وعلى أن القرآن كلام الله ، وكذا غيره من الكتب المنزلة والصحف . ثم اختلفوا ، فقالت المعتزلة    : إن كلام الله صفة فعل مخلوق ، وأنه كلم موسى  بكلام أحدثه في الشجرة . وقال  أحمد  وأتباعه : كلام الله هو علمه لم يزل ، وليس بمخلوق ، وقالت الأشاعرة : كلام الله صفة ذات لم تزل ، وليس بمخلوق ، وهو غير علم الله ، وليس لله تعالى إلا كلام واحد . واحتج  لأحمد  بأن الدلائل القاطعة قامت على أن الله تعالى لا يشبهه شيء من خلقه بوجه من الوجوه ، فلما كان كلامنا غيرنا وكان مخلوقا ، وجب أن يكون كلام الله ليس غيره ، وليس مخلوقا ، وأطال في الرد على المخالفين لذلك . وقال أيضا : اختلفوا . فقالت الجهمية  والمعتزلة  ، وبعض الزيدية  ، والإمامية  ، وبعض الخوارج    : كلام الله مخلوق ، خلقه بمشيئته وقدرته في بعض الأجسام ، كالشجرة حين كلم موسى    . وحقيقة قولهم : أن الله تعالى لا يتكلم ، وإن نسب إليه ذلك فبطريق المجاز . وقالت المعتزلة    : يتكلم حقيقة ، لكن يخلق ذلك الكلام في غيره ، وقالت الكرامية    : الكلام صفة واحدة قديمة العين ، لازمة لذات الله . كالحياة ، وأنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته وتكليمه من كلمه : إنما هو خلق إدراك له يسمع به الكلام ، ونداؤه لموسى  لم يزل ، لكنه أسمعه ذلك حين ناداه . ويحكى عن الماتريدي الحنفي أبي منصور  نحوه ، لكن قال : خلق صوتا حين ناداه فأسمعه كلامه . وزعم بعضهم : أن هذا مراد السلف  القائلين : إن القرآن ليس بمخلوق . [ وقالوا إذا كان الكلام قديما لعينه ، لازما لذات الرب ، وثبت أنه ليس بمخلوق ] فالحروف ليست قديمة ; لأنها متعاقبة ، وما كان مسبوقا بغيره ومفقودا حين التلفظ بغيره لم يكن قديما ، والكلام القديم معنى قائم بالذات لا يتعدد ولا يتجزأ ، بل هو معنى واحد إن عبر عنه بالعربية :  [ ص: 193 ] فقرآن ، أو بالعبرانية : فتوراة مثلا . وذهب بعض الحنابلة وغيرهم إلى أن القرآن العربي كلام الله ، وكذلك التوراة ، وأن الله لم يزل متكلما إذا شاء ، وأنه تكلم بحروف القرآن ، وأسمع من شاء من الملائكة والأنبياء صوته ، وقالوا : إن هذه الحروف والأصوات قديمة العين ، لازمة للذات ، ليست متعاقبة ، بل لم تزل قائمة بذات مقترنة لا تسبق ، والتعاقب إنما يكون في حق المخلوق ، بخلاف الخالق . 
وذهب أكثر هؤلاء إلى أن الأصوات والحروف هي المسموعة من القارئين ، وأبى ذلك كثير منهم ، فقالوا : ليست هي المسموعة من القارئين . وذهب بعضهم إلى أنه متكلم بالقرآن العربي بمشيئته وقدرته بالحروف والأصوات القائمة بالذات ، وهو غير مخلوق ، لكنه في الأزل لم يتكلم ، لامتناع وجود الحادثات في الأزل ، فكلامه حادث في ذاته ، لا محدث . وذهب الكرامية    : إلى أنه حادث في ذاته ومحدث . وذكر الفخر الرازي    : أن قول من قال : إنه تعالى يتكلم بكلام يقوم بذاته ومشيئته واختياره : هو أصح الأقوال نقلا وعقلا ، وأطال . والمحفوظ عن جمهور السلف  ترك الخوض في ذلك والتعمق فيه ، والاقتصار على القول بأن القرآن كلام الله تعالى ، وأنه غير مخلوق ، ثم السكوت عما وراء ذلك . قاله ابن حجر    . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					