فصل 
[ تجويز الحيل يناقض سد الذريعة ] 
وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع  مناقضة ظاهرة ; فإن الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممكن ، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيلة ، فأين من يمنع من الجائز خشية الوقوع في المحرم إلى من يعمل الحيلة في التوصل إليه ؟ فهذه الوجوه التي ذكرناها وأضعافها تدل على تحريم الحيل والعمل بها والإفتاء بها في دين الله . 
ومن تأمل أحاديث اللعن وجد عامتها لمن استحل محارم الله ، وأسقط فرائضه بالحيل ، كقوله : { لعن الله المحلل والمحلل له   } { لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها   } . 
{ لعن الله الراشي والمرتشي   } { لعن الله آكل الربا وموكله  [ ص: 127 ] وكاتبه وشاهده   } . 
ومعلوم أن الكاتب والشاهد إنما يكتب ويشهد على الربا المحتال عليه ليتمكن من الكتابة والشهادة بخلاف ربا المجاهرة الظاهر ، ولعن في الخمر عشرة : عاصرها ومعتصرها ، ومعلوم أنه إنما عصر عنبا ، { ولعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة   } . 
وقرن بينهما وبين آكل الربا وموكله ، والمحلل والمحلل له ، في حديث  ابن مسعود  ، وذلك للقدر المشترك بين هؤلاء الأصناف وهو التدليس والتلبيس ; فإن هذه تظهر من الخلقة ما ليس فيها ، والمحلل يظهر من الرغبة ما ليس عنده ، وآكل الربا يستحله بالتدليس والمخادعة فيظهر من عقد التبايع ما ليس له حقيقة ، فهذا يستحل الربا بالبيع ، وذاك يستحل الزنا باسم النكاح ، فهذا يفسد الأموال ، وذاك يفسد الأنساب ،  وابن مسعود  هو راوي هذا الحديث وهو راوي حديث : { ما ظهر الزنا والربا في قوم إلا أحلوا بأنفسهم العقاب   } . 
" والله تعالى مسخ الذين استحلوا محارمه بالحيل قردة وخنازير جزاء من جنس عملهم ; فإنهم لما مسخوا شرعه وغيروه عن وجهه مسخ وجوههم وغيرها عن خلقتها ، والله تعالى ذم أهل الخداع والمكر ، ومن يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، وأخبر أن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ، وأخبر عنهم بمخالفة ظواهرهم لبواطنهم وسرائرهم لعلانيتهم وأقوالهم لأفعالهم . 
وهذا شأن أرباب الحيل المحرمة ، وهذه الأوصاف منطبقة عليهم ; فإن المخادعة هي الاحتيال والمراوغة بإظهار أمر جائز ليتوصل به إلى أمر محرم يبطنه ، ولهذا يقال : " طريق خيدع " إذا كان مخالفا للقصد لا يفطن له ، ويقال للسراب : " الخيدع " لأنه يخدع من يراه ويغره وظاهره خلاف باطنه ، ويقال للضب : " خادع " وفي المثل : " أخدع من ضب " لمراوغته . 
وقال : " سوق خادعة " أي متلونة ، وأصله الاختفاء والستر ، ومنه " المخدع " في البيت ; فوازن بين قول القائل : آمنا بالله وباليوم الآخر وأشهد أن محمدا  رسول الله ; إنشاء للإيمان وإخبارا به ، وهو غير مبطن لحقيقة هذه الكلمة ولا قاصد له ولا مطمئن به ، وإنما قاله ، متوسلا به إلى أمنه وحقن دمه أو نيل غرض دنيوي ، وبين قول المرابي : بعتك هذه السلعة بمائة . 
وليس لواحد منهما غرض فيها بوجه من الوجوه ، وليس مبطنا لحقيقة هذه اللفظة ، ولا قاصدا له ولا مطمئنا به ، وإنما تكلم بها متوسلا إلى الربا ، وكذلك قول المحلل : تزوجت هذه المرأة ، أو قبلت هذا النكاح ، وهو غير مبطن لحقيقة النكاح ، ولا قاصد له ولا مريد أن تكون زوجته بوجه ، ولا هي مريدة لذلك ولا الولي ، هل تجد بينهما فرقا في الحقيقة أو العرف ؟ فكيف يسمى أحدهما مخادعا دون الآخر ، مع أن قوله بعت واشتريت واقترضت وأنكحت وتزوجت غير قاصد به انتقال الملك الذي وضعت  [ ص: 128 ] له هذه الصيغة ولا ينوي النكاح الذي جعلت له هذه الكلمة بل قصده ما ينافي مقصود العقد أو أمر آخر خارج عن أحكام العقد وهو عود المرأة إلى زوجها المطلق . 
وعود السلعة إلى البائع بأكثر من ذلك الثمن بمباشرته لهذه الكلمات التي جعلت لها حقائق ومقاصد مظهرا لإرادة حقائقها ومقاصدها ومبطنا لخلافه ; فالأول نفاق في أصل الدين ، وهذا نفاق في فروعه ، يوضح ذلك ما ثبت عن  ابن عباس  أنه جاءه رجل فقال : إن عمي طلق امرأته ثلاثا ، أيحلها له رجل ؟ فقال : من يخادع الله يخدعه . 
وصح عن  أنس  وعن  ابن عباس  أنهما سئلا عن العينة ، فقالا : إن الله لا يخدع ، هذا مما حرم الله ورسوله فسميا ذلك خداعا ، كما سمى  عثمان   وابن عمر  نكاح المحلل نكاح دلسة ، وقال  أيوب السختياني  في أهل الحيل : يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان ، فلو أتوا الأمر عيانا كان أهون علي ، وقال  شريك بن عبد الله القاضي  في كتاب الحيل : هو كتاب المخادعة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					