فصل : 
[ الجواب على شبه أصحاب الحيلة السريجية    ] 
قال الموقعون : لقد دعوتم الشبه الجفلى إلى وليمة هذه المسألة ، فلم تدعوا منها داعيا ولا مجيبا ، واجتهدتم في تقريرها ظانين إصابة الاجتهاد ، وليس كل مجتهد مصيبا .  [ ص: 210 ] ونثرتم عليها ما لا يصلح مثله للنثار ، وزينتموها بأنواع الحلي ، ولكنه حلي مستعار ; فإذا استردت العارة زال الالتباس والاشتباه ، وهناك تسمع بالمعيدي خير من أن تراه . 
فأما قولكم : " إنا ارتقينا مرتقى صعبا ، وأسأنا الظن بمن قال بهذه المسألة " فإن أردتم بإساءة الظن بهم تأثيما أو تبديعا فمعاذ الله ، بل أنتم أسأتم بنا الظن ، وإن أردتم بإساءة الظن أنا لم نصوبهم في هذه المسألة ، ورأينا الصواب في خلافهم فيها ; فهذا قدر مشترك بيننا وبينكم في كل ما تنازعنا فيه ، بل سائر المتنازعين بهذه المثابة ، وقد صرح الأربعة الأئمة بأن الحق في واحد من الأقوال المختلفة ، وليست كلها صوابا . 
وأما قولكم : " إن هذه المسألة مأخوذة من نص  الشافعي    " فجوابه من وجهين : أحدهما : أنها لو كانت منصوصة له فقوله بمنزلة قول غيره من الأئمة يحتج له ولا يحتج به ، وقد نازعه الجمهور فيها ، والحجة تفصل ما بين المتنازعين . 
الثاني : أن  الشافعي  رضي الله تعالى عنه لم ينص عليها ولا على ما يستلزمها . 
وغاية ما ذكرتم نصه على صحة قوله : " أنت طالق قبل موتي بشهر " فإذا مات لأكثر من شهر من وقت هذا التعليق تبينا وقوع الطلاق . 
وهذا قد وافقه عليه من يبطل هذه المسألة ، وليس فيه ما يدل على صحة هذه المسألة ولا هو نظيرها . 
وليس فيه سبق الطلاق لشرطه ، ولا هو متضمن للمحال ; إذ حقيقته إذا بقي من حياتي شهر فأنت طالق . 
وهذا الكلام معقول غير متناقض ليس فيه تقديم الطلاق على زمن التطليق ولا على شرط وقوعه ، وإنما نظير المسألة المتنازع فيها أن يقول : " إذا مت فأنت طالق قبل موتي بشهر " وهذا المحال بعينه ، وهو نظير قوله : " إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا " أو يقول : " أنت طالق عام الأول " فمسألة  الشافعي  شيء ومسألة ابن سريج  شيء ، ويدل عليه أن  الشافعي  إنما أوقع عليه الطلاق إذا مات لأكثر من شهر من حين التعليق ; فلو مات عقيب اليمين لم تطلق ، وكانت بمنزلة قوله : " أنت طالق في الشهر الماضي " وبمنزلة قوله : " أنت طالق قبل أن أنكحك " فإن كلا الوقتين ليس بقابل للطلاق ; لأنها في أحدهما لم تكن محلا ، وفي الثاني لم تكن فيه طالقا قطعا ، فقوله : " أنت طالق في وقت قد مضى " ولم تكن فيه طالقا إما إخبار كاذب أو إنشاء باطل ، وقد قيل يقع عليه الطلاق ويلغو قوله : " أمس " لأنه أتى بلفظ الطلاق ثم وصل به ما يمنع وقوعه أو يرفعه فلا يصلح ويقع لغوا ، وكذلك قوله : " أنت طالق طلقة قبلها طلقة " ليس فيه إيقاع الطلقة الموصوفة بالقبلية في الزمن الماضي ولا تقدمها على الإيقاع ، وإنما فيه إيقاع طلقتين إحداهما قبل الأخرى ; فمن ضرورة قوله :  [ ص: 211 ] قبلها طلقة " إيقاع هذه السابقة أولا ثم إيقاع الثانية بعدها ; فالطلقتان إنما وقعتا بقوله : " أنت طالق " لم تتقدم إحداهما على زمن الإيقاع ، وإن تقدمت على الأخرى تقديرا ، فأين هذا من التعليق المستحيل ؟ 
فإن أبيتم وقلتم : قد وصل الطلقة المنجزة بتقدم مثلها عليها ، والسبب هو قوله أنت طالق ; فقد تقدم وقوع الطلقة المعلقة بالقبلية على المنجزة ، ولما كان هذا نكاحا صح ، وهكذا قوله : " إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا " أكثر ما فيه تقدم الطلاق السابق على المنجز ، ولكن المحل لا يحتملهما ; فتدافعا وبقيت الزوجة بحالها ولهذا لو قال : " إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله واحدة " صح لاحتمال المحل لهما . 
فالجواب أنه أوقع طلقتين واحدة قبل واحدة ، ولم تسبق إحداهما إيقاعه ، ولم يتقدم شرط الإيقاع ; فلا محذور ، وهو كما لو قال : " بعدها طلقة ، أو معها طلقة " وكأنه قال : " أنت طالق طلقتين معا ، أو واحدة بعد واحدة " ويلزم من تأخر واحد عن الأخرى سبق إحداهما للأخرى ، فلا إحالة ، أما وقوع طلقة مسبوقة بثلاث فهو محال وقصده باطل ، والتعبير عنه إن كان خبرا فهو كذب ، وإن كان إنشاء فهو منكر ; فالتكلم به منكر من القول وزور في إخباره ، منكر في إنشائه . 
وأما كون المعلق تمام الثلاث فهاهنا لمنازعيكم قولان تقدم حكايتهما ، وهما وجهان في مذهب  أحمد   والشافعي    . 
أحدهما : يصح هذا التعلق ويقع المنجز والمعلق ، وتصير المسألة على وزان ما نص عليه  الشافعي  من قوله : " إذا مات زيد فأنت طالق قبله بشهر " فمات بعد شهر ، فهكذا إذا قال : " إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله واحدة " ثم مضى زمن تمكن فيه القبلية ثم طلقها تبينا وقوع المعلق في ذلك الزمان ، وهو متأخر عن الإيقاع ; فكأنه قال : " أنت طالق في الوقت السابق على تنجيز الطلاق أو وقوعه معلقا " فهو تطليق في زمن متأخر . 
والقول الثاني : أن هذا محال أيضا ، ولا يقع المعلق ; إذ حقيقته أنت طالق في الزمن السابق على تطليقك تنجيزا أو تعليقا فيعود إلى سبق الطلاق للتطليق ، وسبق الوقوع للإيقاع ، وهو حكم بتقديم المعلول على علته . 
يوضحه أن قوله : " إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله " إما أن يريد طالق قبله بهذا الإيقاع أو بإيقاع متقدم . 
والثاني ممتنع ; لأنه لم يسبق هذا الكلام منه شيء . 
والثاني كذلك لأنه لا يتضمن : " أنت طالق قبل أن أطلقك " وهذا عين المحال . 
فهذا كشف حجاب هذه المسألة وسر مأخذها ، وقد تبين أن مسألة  الشافعي  لون وهذه لون آخر .  [ ص: 212 ] 
وأما قولكم : " إن الحكم لا يجوز تقدمه على علته ، ويجوز تقدمه على شرطه كما يجوز تقدمه على أحد سببيه - إلى آخره " فجوابه أن الشرط إما أن يوجد جزءا من المقتضى أو يوجد خارجا عنه ، وهما قولان للنظار ، والنزاع لفظي ; فإن أريد بالمقتضى التام فالشرط جزء منه ، وإن أريد به المقتضى الذي يتوقف اقتضاؤه على وجود شرطه وعدم مانعه فالشرط ليس جزءا منه ، ولكن اقتضاؤه يتوقف عليه ، والطريقة الثانية طريقة القائلين بتخصيص العلة ، والأولى طريقة المانعين من التخصيص ، وعلى التقديرين فيمتنع تأخر الشرط عن وقوع المشروط ; لأن يستلزم وقوع الحكم بدون سببه التام ; فإن الشرط إن كان جزءا من المقتضى فظاهر ، وإن كان شرطا لاقتضائه فالمعلق على الشرط لا يوجد عند عدمه ، وإلا لم يكن شرطا ; فإنه لو كان يوجد بدونه لم يكن شرطا ، فلو ثبت الحكم قبله لثبت بدون سببه التام ، فإن سببه لا يتم إلا بالشرط ، فعاد الأمر إلى سبق الأثر لمؤثره والمعلول لعلته ، وهذا محال ، ولهذا لما لم يكن لكم حيلة في دفعه وعلمتم لزومه فررتم إلى ما لا يجدي عليكم شيئا . 
وهو جعل الشرط مجرد علامة ودليل ومعرف ، وهذا إخراج للشرط عن كونه شرطا وإبطال لحقيقته ; فإن العلامة والدليل [ و ] المعرف ليست شروطا في المدلول المعرف ، ولا يلزم من نفيها نفيه ، فإن الشيء يثبت بدون علامة ومعرف له ، والمشروط ينتفي لانتفاء شرطه وإن لم يوجد لوجوده . 
وكل العقلاء متفقون على الفرق بين الشرط والأمارة المحضة وأن حقيقة أحدهما وحكمه دون حقيقة الآخر وحكمه . 
وإن كان قد يقال : إن العلامة شرط في العلم بالمعلم والدليل شرط في العلم بالمدلول ، فذاك أمر وراء الشرط في الوجود الخارجي ، فهذا شيء وذلك شيء آخر ، وهذا حق ، ولهذا ينتفي العلم بالمدلول عند انتفاء دليله ، ولكن هل يقول أحد : إن المدلول ينتفي وانتفاء دليله ؟ فإن قيل : نعم ، قد قاله غير واحد ، وهو انتفاء الحكم الشرعي لانتفاء دليله . 
قيل : نعم فإن الحكم الشرعي لا يثبت بدون دليله ، فدليله موجب لثبوته ، فإذا انتفى الموجب انتفى الموجب ، ولهذا يقال : لا موجب فلا موجب ، أما شرط اقتضاء السبب لحكمة فلا يجوز اقتضاؤه بدون شرطه ، ولو تأخر الشرط عنه لكان مقتضيا بدون شرطه ، وذلك يستلزم إخراج الشرط عن حقيقته ، وهو محال . 
وأما تقديم الحكم على أحد سببيه في الصورة التي ذكرتموها على إحدى الطريقتين ، أو تقديمه على شرط بعد وجود سببه على الطريقة الأخرى ; فالتنظير به مغلطة ; فإن الحكم لم يتقدم على سببه ولا شرطه ، وهذا محال . 
وإن وقع تسامح في عبارة الفقهاء ، فإن القضاء الحول مثلا والحنث والموت بعد الجرح شرط للوجوب ، ونحن لم نقدم الوجوب على  [ ص: 213 ] شرط ولا سببه ، وإنما قدمنا فعل الواجب . 
والفرق بين تقدم الحكم بالوجوب ، وبين تقدم أداء الواجب ، فظهر أن هذا وهم أو إيهام ، وقد ظهر أن تقديم شرط علة الحكم وموجبه على الحكم أمر ثابت عقلا وشرعا ، ونحن لم نأخذ ذلك عن نص أهل اللغة حتى تطالبونا بنقله ، بل ذلك أمر ثابت لذات الشرط وحكم من أحكامه . 
وليس ذلك متلقى من اللغة ، بل هو ثابت في نفس الأمر لا يختلف بتقدم لفظ ولا تأخره ، حتى لو قال : " أنت طالق إن دخلت الدار " أو قال : " يبعثك الله إذا مت " أو : " تجب عليك الصلاة إذا دخل وقتها " ونحو ذلك فالشرط متقدم عقلا وطبعا وشرعا وإن تأخر لفظا . 
وأما قولكم : " إن الأحكام تقبل النقل عن مواضعها فتتقدم وتتأخر " فتطويل بلا تحصيل ، وتهويل بلا تفضيل ، فهل تقبل النقل عن ترتيبها على أسبابها وموجباتها بحيث يثبت الحكم بدون سببه ومقتضيه ؟ نعم قد يتقدم ويتأخر وينتقل لقيام سبب آخر يقتضي ذلك فيكون مرتبا على سببه الثاني بعد انتقاله كما كان مرتبا على الأول قبل انتقاله ، وفي كل من الموضعين هو مرتب على سببه هذا في حكمه وذاك في محله ، وأما تنظيركم بنقل الأحكام وتقدمها على أسبابها بقوله : " أنت طالق قبل موتي بشهر " وقولكم : " إن نظيره في الحسيات أن تقول : إن زرتني أكرمتك قبل زيارتك بشهر " فوهم أيضا أو إيهام ، فإن قوله : " أنت طالق قبل موتي بشهر " إنما تطلق إذا مضى شهر بعد هذه اليمين حتى يتبين وقوع الطلاق بعد إيقاعه فلو مات قبل مضي شهر لم تطلق على الصحيح ; لأنه يصير بمنزلة أنت طالق عام الأول ; ليس كذلك قوله : " إن زرتني أكرمتك قبله بشهر " فإن الطلاق حكم يمكن تقدير وقوعه قبل الموت ، والإكرام فعل حسي لا يكون إكراما بالتقدير ، وإنما يكون إكراما بالوقوع ، وأما استشهادكم بقوله : " أعتق عبدك عني " فهو حجة عليكم ; فإنه يستلزم تقدم الملك التقديري على العتق الذي هو أثره وموجبه ، والملك شرطه ، ولو جاز تأخر الشرط لقدر الملك له بعد العتق ، وهذا محال ; فعلم أن الأسباب والشروط يجب تقدمها ، سواء كانت محققة أو مقدرة . 
وقولكم : " إن هذا التعليق يتضمن شرطا ومشروطا ، والقضية الشرطية قد تعقد للوقوع وقد تعقد لنفي الشرط والجزء - إلى آخره " فجوابه أيضا أن هذا من الوهم أو الإيهام ; فإن القضية الشرطية هي التي يصح الارتباط بين جزأيها ، سواء كانا ممكنين أو ممتنعين ، ولا يلزم من صدقها شرطية صدق جزأيها جملتين ; فالاعتبار إنما هو بصدقها في نفسها ; ولهذا كان قوله تعالى { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا    } من أصدق الكلام وجزء الشرطية ممتنعان ، لكن أحدهما ملزوم للآخر ، فقامت القضية الشرطية من  [ ص: 214 ] التلازم الذي بينهما ; فإن تعدد الآلهة مستلزم لفساد السموات والأرض ، فوجود آلهة مع الله ملزوم لفساد السموات والأرض ، والفساد لازم ، فإذا انتفى اللازم انتفى ملزومه ، فصدقت الشرطية دون مفرديها ، وأما الشرطية في مسألتنا فهي كاذبة في نفسها ; لأنها عقدت للتلازم بين وقوع الطلاق المنجز وسبق الطلاق الثلاث عليه ، وهذا كذب في الإخبار باطل في الإنشاء ; فالشرطية نفسها باطلة لا تصح بوجه ; فظهر أن تنظيرها بالشرطية الصادقة الممتنعة الجزأين وهم أو إيهام ظاهر لا خفاء به . 
وأما قياسكم المحرر ، وهو قولكم : " طلاقان متعارضان يسبق أحدهما الآخر ، فوجب أن ينفي السابق منهما المتأخر . 
كقوله : إن قدم زيد - إلى آخره " فجوابه أنه لما قدم زيد طلقت ثلاثا ، فقدم عمرو بعده وهي أجنبية ، فلم يصادف الطلاق الثاني محلا ، فهذا معقول شرعا ولغة وعرفا ، فأين هذا من تعلق مستحيل شرعا وعرفا ؟ ولقد وهنت كل الوهن مسألة إلى مثل هذا القياس استنادها ، وعليه اعتمادها . 
وأما قولكم : " نكتة المسألة أنا لو أوقعنا المنجز لزمنا أن نوقع قبله ثلاثا - إلى آخره " فجوابه أن يقال : هذا كلام باطل في نفسه ، فلا يلزم من إيقاع المنجز إيقاع الثلاث قبله ، لا لغة ولا عقلا ولا شرعا ولا عرفا ، فإن قلتم : لأنه شرط للمعلق قبله ، فقد تبين فساد المعلق بما فيه كفاية . 
ثم نقلب عليكم هذه النكتة قلبا أصح منها شرعا وعقلا ولغة ، فنقول : إذا أوقعنا المنجز لم يمكنا أن نوقع قبله ثلاثا قطعا ، وقد وجد سبب وقوع المنجز وهو الإيقاع ، فيستلزم موجبه وهو الوقوع ، وإذا وقع موجبه استحال وقوع الثلاث ; فهذه النكتة أصح وأقرب إلى الشرع والعقل واللغة ، وبالله التوفيق . 
وأما قولكم : " إن المكلف أتى بالسبب الذي ضيق به على نفسه فألزمناه حكمه - إلى آخره " فجوابه أن هذا إنما يصح فيما يملكه من الأسباب شرعا ، فلا بد أن يكون السبب مقدورا ومشروعا ، وهذا السبب الذي أتى به غير مقدور ولا مشروع ; فإن الله تعالى لم يملكه طلاقا ينجزه تسبقه ثلاث قبله ، ولا ذلك مقدور له ; فالسبب لا مقدور ولا مأمور ، بل هو كلام متناقض فاسد ; فلا يترتب عليه تغيير أحكام الشرع ، وبهذا خرج الجواب عما نظرتم به من المسائل : 
أما المسألة الأولى - وهي إذا طلق امرأته ثلاثا جملة    - فهذه مما يحتج لها ، ولا يحتج بها ، وللناس فيها أربعة أقوال ، أحدها : الإلزام بها ، والثاني : إلغاؤها جملة وإن كان هذا إنما يعرف عن الفقهاء الشيعة  ، والثالث : أنها واحدة ، وهذا قول  أبي بكر الصديق  وجميع الصحابة في زمانه وإحدى الروايتين عن  ابن عباس  واختيار أعلم الناس  [ ص: 215 ] بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم  محمد بن إسحاق  والحارث العكلي  وغيره ، وهو أحد القولين في مذهب  مالك  حكاه التلمساني  في شرح تفريع  ابن الجلاب  ، وأحد القولين في مذهب  أحمد  اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية    . 
والرابع : أنها واحدة في حق التي لم يدخل بها ، وثلاث في حق المدخول بها ، وهذا مذهب إمام أهل خراسان  في وقته  إسحاق بن راهويه  نظير الإمام  أحمد   والشافعي  ومذهب جماعة من السلف ، وفيها مذهب خامس ، وهو أنها إن كانت منجزة وقعت ، وإن كانت معلقة لم تقع ، وهو مذهب حافظ الغرب وإمام أهل الظاهر في وقته  أبو محمد بن حزم  ، ولو طولبتم بإبطال هذه الأقوال وتصحيح قولكم بالدليل الذي يركن إليه العالم لم يمكنكم ذلك ، والمقصود أنكم تستدلون بما يحتاج إلى إقامة الدليل عليه ، والذين يسلمون لكم وقوع الثلاث جملة واحدة فريقان : فريق يقول بجواز إيقاع الثلاث فقد أتى المكلف عنده بالسبب المشروع المقدور فترتب عليه سببه ، وفريق يقول : تقع وإن كان إيقاعها محرما كما يقع الطلاق في الحيض والطهر الذي أصابها فيه ، وإن كان محرما لأنه ممكن ، بخلاف وقوع طلقة مسبوقة بثلاث فإنه محال ، فأين أحدهما من الآخر ؟ فصل 
وأما نقضكم الثاني بتمليك الرجل امرأته الطلاق وتضييقه على نفسه بما وسع الله عليه من جعله بيده ، فجوابه من وجوه : 
أحدها : أنه بالتمليك لم يخرج الطلاق عن يده ، بل هو في يده كما هو ، هذا إن قيل إنه تمليك ، وإن قيل إنه توكيل فله عزلها متى شاء . 
الثاني : أن هذه المسألة فيها نزاع معروف بين السلف والخلف ; فمنهم من قال : لا يصح تمليك المرأة الطلاق  ولا توكيلها فيه ، ولا يقع الطلاق إلا ممن أخذ بالساق . 
وهذا مذهب أهل الظاهر ، وهو مأثور عن بعض السلف ; فالنقض بهذه الصورة يستلزم إقامة الدليل عليها ، والأول لا يكون دليلا . 
ومن هنا قال بعض أصحاب  مالك    : إنه إذا علق اليمين بفعل الزوجة  لم تطلق إذا حنث . 
قال : لأن الله تعالى ملك الزوج الطلاق ، وجعله بيده رحمة منه ، ولم يجعله إلى المرأة ; فلو وقع الطلاق بفعلها لكان إليها إن شاءت أن تفارقه وإن شاءت أن تقيم معه ، وهذا خلاف شرع الله ، وهذا أحد الأقوال في مسألة تعليق الطلاق بالشرط كما تقدم . 
والثاني : أنه لغو وباطل ، وهذا اختيار أبي عبد الرحمن ابن بنت الشافعي  ومذهب أهل الظاهر . 
 [ ص: 216 ] والثالث : أنه موجب لوقوع الطلاق عند وقوع الصفة ، سواء كان يمينا أو تعليقا محضا ، وهذا المشهور عند الأئمة الأربعة وأتباعهم . 
والرابع : أنه إن كان بصيغة التعليق لزم ، وإن كان بصيغة القسم والالتزام لم يلزم إلا أن ينويه ، وهذا اختيار أبي المحاسن الروياني  وغيره . 
والخامس : أنه إن كان بصيغة التعليق وقع ، وإن كان بصيغة القسم والالتزام لم يقع وإن نواه ، وهذا اختيار  القفال  في فتاويه . 
والسادس : أنه إن كان الشرط والجزاء مقصودين وقع ، وإن كانا غير مقصودين - وإنما حل به قاصدا منع الشرط والجزاء - لم يقع ، ولا كفارة فيه ، وهذا اختيار بعض أصحاب  أحمد    . 
والسابع : كذلك ، إلا أن فيه الكفارة إذا خرج مخرج اليمين ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية  ، والذي قبله اختيار أخيه . 
وقد تقدم حكاية قول من حكى إجماع الصحابة أنه إذا حنث فيه لم يلزمه الطلاق ، وحكينا لفظه . 
والمقصود الجواب عن النقض بتمليك المرأة الطلاق أو توكيلها فيه . 
وأما قولكم في النقض الثالث : " إن فقهاء الكوفة  صححوا تعليق الطلاق بالنكاح ، وهو يسد باب النكاح " فهذا القول مما أنكره عليهم سائر الفقهاء ، وقالوا : هو سد لباب النكاح ، حتى قال  الشافعي  نفسه : أنكره عليهم بذلك وبغيره من الأدلة . 
ومن العجب أنكم قلتم في الرد عليهم : لا يصح هذا التعليق ; لأنه لم يصادف محلا ، وهو لا يملك الطلاق المنجز فلا يملك المعلق ; إذ كلاهما مستدع لقيام محله ، ولا محل ، فهلا قبلتم منهم احتجاجهم عليكم في المسألة السريجية بمثل هذه الحجة ، وهي أن المحل غير قابل لطلقة مسبوقة بثلاث ، وكان هذا الكلام لغوا وباطلا فلا ينعقد ، كما قلتم أنتم في تعليق النكاح بالطلاق : إنه لغو وباطل فلا ينعقد 
فصل [ إذا علق عتق عبده على ملكه    ] 
وأما النقض الرابع بقوله : " كل عبد أو أمة أملكه فهو حر " فهذا للفقهاء فيه قولان ، وهما روايتان عن الإمام  أحمد    : إحداهما : أنه لا يصح كتعليق الطلاق .  [ ص: 217 ] 
والثاني : أنه يصح والفرق بينه وبين تعليق الطلاق أن ملك العبد قد شرع طريقا إلى زوال ملكه عنه بالعتق ، إما بنفس الملك كمن ملك ذا رحم محرم ، وإما باختيار الإعتاق كمن اشترى عبدا ليعتقه عن كفارته أو ليتقرب به إلى الله ، ولم يشرع الله النكاح طريقا إلى زوال ملك البضع ووقوع الطلاق ، بل هذا يترتب عليه ضد مقصوده شرعا وعقلا وعرفا ، والعتق المترتب على الشراء ترتيب لمقصوده عليه شرعا وعرفا ، فأين أحدهما من الآخر ؟ وكونه قد سد على نفسه باب ملك الرقيق فلا يخلو إما أن يعلق ذلك تعليقا مقصودا أو تعليقا قسميا ; فإن كان مقصودا فهو قد قصد التقرب إلى الله بذلك ، فهو كما لو التزم صوم الدهر وسد على نفسه باب الفطر . 
وإن كان تعليقا قسميا فله سعة بما وسع الله عليه من الكفارة كما أفتى به الصحابة رضي الله عنهم وقد تقدم . 
فصل 
وأما النقض الخامس بمن معه ألف دينار فاشترى بها جارية وأولدها ، فهذا أيضا نقض فاسد ; فإنه بمنزلة من أنفقها في شهواته وملاذه ، وقعد ملوما محسورا ، أو تزوج بها امرأة وقضى وطره منها ونحو ذلك . 
فأين هذا من سد باب الطلاق وبقاء المرأة كالغل في عنقه إلى أن يموت أحدهما ؟ 
فصل [ لم تبن الشرائع على الصور النادرة ] . 
وقولكم : " قد يكون له في هذه اليمين مصلحة وغرض صحيح ، بأن يكون محبا لزوجته ويخشى وقوع الطلاق بالحلف أو غيره فيسرحها    " جوابه أن الشرائع العامة لم تبن على الصور النادرة ، ولو كان لعموم المطلقين في هذا مصلحة لكانت حكمة أحكم الحاكمين تمنع الرجال من الطلاق بالكلية ، وتجعل الزوج في ذلك بمنزلة المرأة لا تتمكن من فراق زوجها . 
ولكن حكمته تعالى أولى وأليق من مراعاة هذه المصلحة الجزئية التي في مراعاتها تعطيل مصلحة أكبر منها وأهم ، وقاعدة الشرع والقدر تحصيل أعلى المصلحتين وإن فات أدناهما ، ودفع أعلى المفسدتين وإن وقع أدناهما ، وهكذا ما نحن فيه سواء ; فإن مصلحة تمليك الرجال الطلاق أعلى وأكبر من مصلحة سده عليهم ، ومفسدة سده عليهم أكبر من مفسدة فتحه لهم المفضية إلى ما ذكرتم . 
وشرائع الرب تعالى كلها حكم ومصالح وعدل ورحمة ، وإنما العبث والجور والشدة في خلافها ، وبالله التوفيق .  [ ص: 218 ] وإنما أطلنا الكلام في هذه المسألة لأنها من أمهات الحيل وقواعدها ، والمقصود بيان بطلان الحيل    ; فإنها لا تتمشى على قواعد الشريعة ولا أصول الأئمة ، وكثير منها - بل أكثرها - من توليدات المنتسبين إلا الأئمة وتفريعهم ، الأئمة براء منها . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					