[ ص: 94 ] المتواتر    ] الخامس : المتواتر ، وهو لغة : ترادف الأشياء المتعاقبة واحد بعد واحد بمهلة ، واصطلاحا : خبر جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب من حيث كثرتهم عن محسوس ، وإنما قال : " من حيث كثرتهم " ليحترز به عن خبر قوم يستحيل كذبهم لسبب آخر خارج عن الكثرة ، وله شروط منها ما يرجع إلى المخبرين ، ومنها ما يرجع إلى السامعين . [ شروط المتواتر التي ترجع إلى المخبرين    ] فالذي رجع إلى المخبرين أمور : أحدها : أن يكونوا عالمين بما أخبروا به غير مجازفين ، فلو كانوا ظانين ذلك لم يفد القطع ، هكذا شرطه جماعة منهم  القاضي أبو بكر    . وقال  ابن الحاجب    : إنه غير محتاج إليه ; لأنه إن أريد علم الجميع فباطل ; لجواز أن يكون بعضهم ظاهرا ومع ذلك يحصل العلم ، وإن أريد  [ ص: 95 ] علم البعض فلازم من شرط الحس . 
ثانيها : أن يعلموا ذلك عن ضرورة ، إما بعلم الحس من مشاهدة أو سماع ، وإما أخبار متواترة ; لأن ما لا يكون كذلك يحتمل دخول الغلط فيه ، فلا يحصل به العلم . قال  الأستاذ أبو منصور    : فأما إذا تواترت أخبارهم عن شيء قد علموه واعتقدوه ، بالنظر أو الاستدلال أو عن شبهة ، فإن ذلك لا يوجب علما ضروريا ; لأن المسلمين مع تواترهم يخبرون الدهرية  بحدوث العالم ، وتوحيد الصانع ، ويخبرون أهل الذمة  بصحة نبوة سيدنا محمد  صلى الله عليه وسلم ، فلا يقع لهم العلم بذلك ; لأن العلم به من طريق الاستدلال دون الاضطرار ، فإن المطلوب صدور عن العلم الضروري ، ثم قد يترتب على الحواس ودركها ، وقد يحصل عن قرائن الأحوال ، ولا أثر للحس فيها على الاختصاص ، فإن الحس لا يميز احمرار الخجل والغضبان عن اصفرار المحبوب والمرغوب ، وإنما العقل يدرك تمييز هذه الأحوال . قال : فالوجه اشتراط صدور الأخبار عن البديهة والاضطرار ، هذا كلامه وغايته الحس أيضا ; لأن القرائن المفيدة للعلم الضروري مستندة إلى الحس . 
ثالثها : أن تكون مشاهدة الشاهدين للمخبر عنه حقيقة وصحيحة ، فلا تكون على سبيل غلط الحس ، فلذلك لا يلتفت إلى إخبار النصارى  بصلب المسيح    . رابعها : أن يكون بصفة يوثق معها بقولهم ، فلو أخبروا متلاعبين أو مكرهين على ذلك الخبر لم يلتفت إليه . خامسها : أن يبلغ عدد المخبرين إلى مبلغ يمتنع عادة تواطؤهم على  [ ص: 96 ] الكذب ، وذلك يختلف باختلاف القرائن والوقائع والمخبرين ، ولا يتقيد بعدد معين ، بل هذا القدر كاف ، ومنهم من عبر عنه بأن تكون شواهد أحوالهم تنفي عن مثلهم المواطأة والغلط ، ولا خلاف في هذا ، ولكن اختلفوا : هل يشترط فيه عدد معين  ؟ والجمهور على أنه ليس فيه حصر ، وإنما الضابط حصول العلم ، فمتى أخبر هذا الجمع ، وأفاد خبرهم العلم ، علمنا أنه متواتر ، وإلا فلا ، لكن منهم من قطع به في جانب النفي ، ولم يقطع في جانب الإثبات ، فقال بعدم إفادة عدد معين له ، وتوقف  القاضي أبو الطيب  ، وقال : يجب أن يكونوا أكثر من أربعة ; لأنه لو كان خبر الأربعة يوجب العلم لما سأل الحاكم عن عدالتهم ، إذا شهدوا عنده ، وقال ابن السمعاني    : ذهب أصحاب  الشافعي  إلى أنه لا يجوز أن يتواتر الخبر بأقل من خمسة ، فما زاد . 
فعلى هذا لا يجوز أن يتواتر بأربعة ; لأنه عدد معين في الشهادة الموجبة لغلبة الظن دون العلم . ا هـ . 
وحكاه  الأستاذ أبو منصور  عن الجبائي  ، وذكر بعضهم أن مستنده عدد أولي العزم ، وهم على الأشهر : نوح  وإبراهيم  وموسى  وعيسى  ومحمد  صلوات الله عليهم ، والمشترطون للعدد اختلفوا واضطربوا اضطرابا كثيرا ، فقيل : يشترط عشرة ، ونسب للإصطخري  ، والذي في القواطع " عنه لا يجوز أن يتواتر بأقل من عشرة ، وإن جاز أن يتواتر بالعشرة فما زاد ; لأن ما دونها جمع الآحاد فاختص بأخبار الآحاد ، والعشرة فما زاد جمع الكثرة .  [ ص: 97 ] قال : وقال قوم من غير أصحاب  الشافعي    : أقل ما يتواتر به الخبر اثنا عشر ; لأنهم عدد النقباء    . 
ونقل القرافي  عن غيره اعتبار العشرة بعدد بيعة أهل الرضوان ، وهو وهم لما سيأتي ، وقيل : عشرون ، أي إذا كانوا عدولا ، كذا قيده الصيرفي  لقوله تعالى : { إن يكن منكم عشرون    } ونقل عن  أبي الهذيل  وغيره من المعتزلة  ، وقيل : أربعون ، وقيل : سبعون ، لقوله تعالى : { واختار موسى قومه سبعين رجلا    } ، وقيل : ثلاثمائة وبضعة عشر ، عدد أهل بدر  ، وإنما خصهم بذلك لحصول العلم بخبرهم للمشركين ، ووقع في التقريب " للقاضي  والبرهان للإمام  وغيرهما تقييدهم بثلاثمائة وثلاثة عشر ، وحكى الحافظ الدمياطي  وغيره ذلك ، وقولا آخر أنهم ثلاثمائة وعشرة رجال ، والجمع بين القولين بأن الذين خرجوا مع النبي في غزوة بدر  للمقاتلة ثلاثمائة وخمسة رجال ، ولم يحضر الغزوة ثمانية من المؤمنين أدخلهم النبي عليه السلام في حكم عداد الحاضرين ، وأجرى عليهم حكمهم ، فكانت الجملة ثلاثمائة وثلاثة عشر ، فاعرف ذلك . 
وقيل : عدد أهل بيعة الرضوان . قال إمام الحرمين    : وهم ألف وسبعمائة . قلت    : وفي صحيح  البخاري  عن  جابر  أن عددهم خمس عشرة مائة ، وفي رواية ألف وأربعمائة ، ثم روي عن  قتادة  ، قلت  لسعيد بن المسيب    : كم كان الذين شهدوا بيعة الرضوان ؟ قال خمس عشرة مائة . قلت : قال  جابر بن عبد الله    : كانوا أربع عشرة مائة . قال رحمه الله : وهم ، هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة . قال  البيهقي    : هذه الرواية تدل على أنه كان في القديم يقول : خمس عشرة مائة ، ثم ذكر الوهم ، وقال : أربع عشرة مائة .  [ ص: 98 ] وقيل : لا بد من خبر كل الأمة وهو الإجماع ، حكاه القاضي  في التقريب " عن  ضرار بن عمرو  ، قال طوائف من الفقهاء : ينبغي أن يبلغوا مبلغا عظيما ، أي لا يحويهم بلد ولا يحصرهم عدد . 
قال إمام الحرمين    : وهو سرف ، والكل ضعيف لتعارض بعضها ببعض ، ولا مرجح لأحدها . قال إمام الحرمين    : ولو عن مرجح ، فليس ذلك من مدلول الخبر المقطوع به ، فإن الترجيحات ثمراتها غلبة الظنون في مطرد العادة ، وقال ابن السمعاني    : القولان الأولان أمثل الأقاويل ، والباقي ليس بشيء ، أي فإنها تحكمات فاسدة ، لا تناسب الغرض ولا تدل عليه ، وتعارض أقوالهم دليل على فسادها ، وأما استخراج  أبي الهذيل  من قوله : { إن يكن منكم عشرون صابرون    } فمردود ; لأن هذا منسوخ ، ثم جعل الله الواحد يقوم بإزاء الاثنين ، فهذه الآية بخبر الواحد أولى ; لأن فرض العشرين أن يقوموا لمائتين منسوخ ، وصار ثبوت الواحد للاثنين ، فلو احتج بها عليه في ثبوت خبر الواحد لكان أقرب الأدلة ، وباقي الأدلة لا تدل ; لأنها أمور اتفاقية . فالحق عدم التعيين ، مع القطع بأنه لا بد من عدد يحصل بخبرهم العلم . وهل ذلك العدد المفيد للعلم في واقعة يتصور أن لا يفيد في واقعة أخرى  ؟ قال القاضي    : ذلك محال ، بل لا بد إلى تحصيل ذلك العدد ، العلم لكل من سمعه ، ومهما حصل هذا العلم لشخص فلا بد من حصوله لجميع الأشخاص ; لتحقق الموجب للعمل عند كل واحد منهم ، وهذا بناه على أن الإخبار بمجرده يفيد العلم عادة دون القرائن ، ومنع إفادته العلم من حيث  [ ص: 99 ] انضمام القرائن التي لم يجعل لها أثر . قال الغزالي    : وهذا غير مرضي ; لأن مجرد الإخبار يجوز أن يورث العلم ، وإن لم تكن قرينة ، ومجرد القرائن أيضا قد تورث العلم ، وإن لم يكن معها إخبار كعلمنا بخجل الخجل ، ووجل الوجل ، فلا يبعد أن تضم القرائن إلى الأخبار ، فيقوم بعض القرائن مقام بعض العدد ، فيحصل العلم بمجموعهما قال : وهذا مما يقطع به ، والتجربة تدل عليه . 
وتوسط الهندي  ، فقال : الحق أن يقال : إن كان حصول العلم في الصورة التي حصل العلم فيها بمجرد الخبر من غير احتفاف قرينة به لا من جهة المخبرين ، ولا من جهة السامعين ، حالية كانت أو مالية ، كان الإطراد واجبا ، وإن لم يكن بمجرده ، بل بانضمام أمر آخر إليه فلا يجب الإطراد . سادسها : أن يتفقوا على الخبر من حيث المعنى ، وإن اختلفوا في العبارة ، فإن اختلفوا في المعنى بطل تواترهم . 
وشرط ابن عبدان  في كتابه المسمى " بالشرائط " في الناقلين شرطين : أحدهما : العدالة ، قال : فلا يقبل التواتر من الفساق ، ومن ليس بعدل على الصحيح من المذهب ، ومن أصحابنا من قبله . والثاني : الإسلام ، قال : فالتواتر من الكفار لا يصح على الصحيح من المذهب ; لأنه لا خلاف أن أخبار الآحاد لا تقبل من الكفار والفساق وهي لا توجب العلم ، فالتواتر الذي يوجب العلم أولى أن لا يقبل منهم ، ومن أصحابنا من قال : يقبل تواتر الكفار . ا هـ . والصحيح خلاف ما قال . قال سليم  في التقريب " : لا يشترط في وقوع العلم بالتواتر صفات المخبرين ، بل يقع ذلك بإخبار المسلمين ،  [ ص: 100 ] والكفار والعدول والفساق ، والأحرار والعبيد ، والكبار والصغار ، إذا اجتمعت الشروط ، وكذا قال أبو الحسين بن القطان  في كتابه : ذهب قوم من أصحابنا إلى أن شرط التواتر في الكفار أن يكون منهم مسلمون للعصمة ، وعندنا لا فرق بين الكفار والمسلمين في الخبر ، وإنما غلطت هذه الفرقة ، فنقلت ما طريقه الاجتهاد إلى ما طريقه الخبر ، وصرح  القفال الشاشي  بأن الإسلام ليس بشرط ، وإنما رددنا خبر النصارى  بقتل عيسى    ; لأن أصله ليس بمتواتر ; لأنهم بلغوه عن خبر : ولو ما . ومارقين ، ثم تواتر الخبر من بعدهم ، وكذلك قال  الأستاذ أبو منصور    . قال : ولا يشترط أن تكون نقلته مؤمنين أو عدولا ، وفرق بينه وبين الإجماع حيث اشترط الإيمان والعدالة فيه أن الإجماع حكم شرعي ، فاعتبر في أهله كونهم من أهل الشريعة ، وقال ابن برهان    : لا يشترط إسلامهم خلافا لبعضهم ، وجرى عليه المتأخرون من الأصوليين ، وقطع به ابن الصباغ  في باب السلم من الشامل " . فإن  الشافعي  قال في المختصر " : ولو وقت بفصح النصارى  لم يجز ; لأنه قد يكون عاما في شهر وعاما في غيره ، على حساب ينسئون فيه أياما ، فلو اخترناه كنا قد عملنا في ذلك بشهادة النصارى  ، وهذا غير حلال للمسلمين . 
قال ابن الصباغ    : هذا ما لم يبلغوا حد التواتر ، فإن بلغوه بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب ، فإنه يكفي لحصول العلم ، ومنهم من حكى فيه قولا ثالثا ، وهو التفصيل بين أن يطول الزمان فيعتبر الإسلام لجواز التواطؤ ، وإلا فلا يعتبر . حكاه الشيخ  في التبصرة " ، ومنهم من فصل بين ما طريقه الديانات فلا مدخل لهم فيه ، وما طريقه الأقاليم وشبهها فهل لهم مدخل بالتواتر فيه ؟ هو محل الخلاف . وقد سبق  [ ص: 101 ] عن الماوردي  أن العدالة شرط في التواتر دون الاستفاضة . وجزم الروياني  بأن الحرية لا تشترط ، وذكر وجهين في انفراد الصبيان به مع شواهد الحال بانتفاء المواطأة ، فتحصلنا على وجوه ، ولا يعتبر في المخبرين أن لا يحصرهم عدد ، ولا يحويهم بلد ، خلافا لقوم ; لأن أهل الجامع لو أخبروا عن سقوط المؤذن عن المنارة فيما بين الخلق لأفاد خبرهم العلم ، ولا يشترط فيهم أن يكونوا مختلفي الأديان ، والأنساب والأوطان خلافا لليهود  ، فإنهم شرطوا أن لا يكون نسبهم واحدا ، وأن لا يكون سكنهم واحدا ، والدليل على فساد ذلك أن قبيلة من القبائل المتفقة أديانهم وأنسابهم لو أخبروا بواقعة في ناحيتهم حصل العلم بخبرهم ضرورة ، ولا يشترط أن يكون فيهم معصوم ، خلافا للشيعة  ولابن الراوندي    . واعلم أن هذه الشروط لا بد منها ، سواء أخبر المخبرون عن مشاهدة ، أو لا عن مشاهدة ، بل عن سماع من آخرين ، فأما إذا حصل الوسائط فيعتبر شرط آخر ، وهو وجود الشروط في كل الطبقات ، وهو معنى قولهم : لا بد من استواء الطرفين والواسطة ، فيروي العدد المذكور بالصفة السابقة عن مثله إلى أن يتصل بالمخبر عنه ، أي يجب أن يكون حال من نقل عن الأولين كحال الأولين فيما علموه ضرورة ، وكذلك النقلة في المرتبة الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة إلى أن ينتهي إلينا ، ولهذا لم يصح ما نقله النصارى  عن صلب عيسى  عليه السلام ; لأنهم نقلوه عن عدد لا تقوم بهم الحجة ابتداء . 
وكذا ما نقلته الروافض  من النص على إمامة  علي  ، وبهذا تبين أن التواتر ينقلب آحادا ، وربما اندرس دهرا . فالمتواتر من أخبار النبي عليه السلام ما اطردت الشرائط فيه عصرا بعد عصر ، حتى انتهى إلينا ، وهذا لا خفاء فيه . قال إمام الحرمين    : ولكنه ليس  [ ص: 102 ] من شرطه التواتر . قال : بل حاصله أن التواتر قد ينقلب آحادا ، وليس من شرائط وقوع التواتر فلا يصح تعبيرهم باستواء الطرفين والواسطة ، وخالفه ابن القشيري  ، وقال : ما هو من شروطه ، لا من شرط حصول العلم ، والعلم قد يحصل من غير تواتر ، وقد ينبني على التواتر . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					