مسألة : إذا عمل الصحابي بخلاف حديث رواه  فله أحوال : أحدها : أن يكون الخبر عاما فيخصه بأحد أفراده وقد سبقت المسألة بفروعها في باب التخصيص . ثانيها : أن يكون مطلقا ، فيقيده ، وهو كتخصيص العام بلا فرق    . ثالثها : أن يدعي نسخه  ، وقد سبق في آخر باب النسخ . رابعها : أن يكون الخبر محتملا لأمرين متنافيين ، فيحمله الراوي على أحدهما  ، فالذي ذكره جمهور أصحابنا منهم الأستاذ أبو إسحاق  ،  وابن فورك  ،  والأستاذ أبو منصور  ، إلكيا الطبري  ، وسليم الرازي  في " التقريب " أنه ينظر ، فإن أجمعوا على أن المراد أحدهما رجع إليه فيه ، ولهذا رجع  الشافعي  إلى تفسير  ابن عمر  التفرق في خيار المجلس بالأبدان ، وكتفسيره حبل الحبلة ببيعه إلى نتاج النتاج ، وكفعل  عمر  في هاء وهاء ، فقال : والله لا تفارقه وبينك وبينه شيء ، ثم احتج بقوله :  [ ص: 288 ]   { الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء   } على المجلس دون المقايضة على الفور ، وتوقف  الشيخ أبو إسحاق  في ، " اللمع " . 
هذا إن كان صحابيا ، فإن كان تابعيا لم يلزم كما سبق ، وقيل : لا فرق ، وإن لم يتنافيا فكالمشترك في حمله على معنييه ، وإن جوزوا أن يكون المراد غيرهما كتفسير  ابن عمر  قول النبي صلى الله عليه وسلم : { إذا رأيتموه فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غم عليكم فأقدروا له   } ، عادة الشهور من تسع وعشرين أو ثلاثين ، فأوجب صيام الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال تلك الليلة ، وكانت السماء مغيمة ، وإنما لم يرجع  الشافعي  إلى تفسيره ذلك وأوجب استكمال الثلاثين سواء الليلة المغيمة أو المصحية ; لأن الإجماع لم يقم على أن المراد أحدهما ، بل جاءت الروايات كلها مصرحة بخلاف روايته ، كخبر  أبي هريرة  ،  وابن عباس  أن المراد استكمالهن ثلاثين لا العدة المعتادة . وأطلق  أبو بكر الصيرفي  أن تأويل الراوي أولى لمشاهدة الحال إلا أن يقوم دليل على مخالفته ، فالحكم للدليل ، كما أوصى  أبو سعيد  أن يكفن في ثياب جدد ; لأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { يحشر المؤمن في ثوبه   } يوجه تأويله إلى الثياب ، ثم إن الدليل قام على خلافه من قوله : { يحشر الناس عراة ، فأول من يلبس إبراهيم    } فثبت أن المراد بالثوب في الحديث العمل  [ ص: 289 ] من صالح أو طالح . قال : وإنما جعل تأويل الراوي أولى ; لأنه قد شاهد من الأمارات ما لا يقدر على حكايته ، فيكون تأويله أولى ، فإذا انكشف خلافه صرنا إليه ، ومن هذا قال  الشافعي    : ربما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث ، ثم يسمع سببه ، أو يسمع آخر كلامه ، ولم يسمع أوله ، وعلى كل إنسان أن يحكي ما سمع حتى يسمع خلافه . ا هـ . 
قال الآمدي    : إذا حمل الصحابي ما رواه على أحد محتمليه  ، فإن قلنا : إن اللفظ المشترك ظاهر في جميع محامله كالعام ، فتعود المسألة إلى التخصيص بقول الصحابي ، وإن قلنا بامتناع حمله على ذلك ، فلا نعرف خلافا في وجوب حمل الخبر على ما حمله عليه الراوي    ; لأن الظاهر من حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا ينطق باللفظ المجمل بقصد التشريع وتعريف الأحكام ، ويخليه عن قرينة حالية أو مقالية تعين المقصود من الكلام ، والصحابي الراوي المشاهد للحال أعرف بذلك من غيره ، فوجب الحمل عليه . 
ثم أورد على جهة الاحتمال أن تعيينه ليس أولى من تعيين غيره من المجتهدين ، حتى ينظر فيه ، فإن انقدح له وجه يوجب تعيين غير ذلك الاحتمال ، وجب اتباعه ، وإلا فتعيين الراوي صالح للترجيح ، فيجب اتباعه . ا هـ . وهذا الاحتمال ضعيف ; لأن الظاهر أن تعيين الصحابي المشاهد للحال إنما يكون عن قرينة حالية أو مقالية شاهدها ، فلا يعدل عن الظاهر إلا عند قيام ما ترجح عليه لا بمجرد كونه محتملا . 
وقد نقل  القاضي أبو بكر  ، وإمام الحرمين نص  الشافعي  على أن الصحابي إذا نقل خبرا وأوله  ، وذكر مجمله فتأويله مقبول . قال أبو نصر بن القشيري    : وإنما أراد فيما أظن إذا أول الصحابي أو خصص من غير ذكر دليل ، وإلا فالتأويل المعتضد بالدليل مقبول من كل إنسان ; لأنه اتباع للدليل لا اتباع ذلك المؤول .  [ ص: 290 ] وقال عبد الوهاب  في " الإفادة " : ذهب جمهور أصحاب  الشافعي  إلى تعيين تأويل الراوي وحكوه عن  الشافعي    . ومنهم من منع ذلك ، وبنى عليه منع التوقيت في المسح ، لقول خزيمة    : لو مضى السائل في مسألته لجعلها خمسا ، فقالوا : هذا ظن ، والواجب المصير إلى الخبر . فقال : والصحيح إن كان ذلك مما لا يعلم إلا من قصده صلى الله عليه وسلم ، فالواجب المصير إليه ; لأنه ليس يعلم ما لأجله صار إلى ذلك سواه ، وإن كان مما طريقه الاستدلال لم يلزم ; لأنه تخصيص العموم إلا أن يكون مما طريقه اللغة دون الأحكام ، فيلزم المصير إليه ; لكون الصحابي حجة في اللغة . ا هـ ، وهو تقييد حسن . 
خامسها : أن يكون الخبر ظاهرا في شيء ، فيحمله الصحابي على غير ظاهره  ، إما بصرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه ، أو بأن يصرفه عن الوجوب إلى الندب أو عن التحريم إلى الكراهة . فالذي عليه الجمهور العمل بظاهر الحديث ، ولا يخرج عنه بمجرد عمل الصحابي ، وقوله . هكذا ذكره الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني  ،  وابن فورك  إلكيا الطبري  ، وغيرهم . قال الآمدي    : وفيه قال  الشافعي    : كيف أترك الخبر لأقوال أقوام لو عاصرتهم لحججتهم [ بالحديث ] . وذهب أكثر الحنفية إلى اتباع قول الراوي في ذلك لما سيأتي . 
وقال بعض المالكية : إن كان ذلك مما لا يمكن أن يدرك إلا بشواهد الأحوال ، والقرائن المقتضية لذلك ، وليس للاجتهاد مساغ في ذلك اتبع قوله ، وإن كان صرفه عن ظاهره يمكن أن يكون لضرب من الاجتهاد تعين الرجوع إلى ظاهر الخبر ، لاحتمال أن لا يكون اجتهاده مطابقا لما في نفس  [ ص: 291 ] الأمر ، فلا يترك الظاهر بالمحتمل . حكاه عنهم القاضي عبد الوهاب  في " الملخص " . وقال القاضي عبد الجبار  ، وأبو الحسين البصري  من المعتزلة    : إن علم أنه لم يكن لمذهب الراوي وتأويله وجه سوى علمه بقصد النبي صلى الله عليه وسلم لذلك التأويل ، وجب المصير إليه ، وإن لم يعلم ذلك ، بل جوز أن يكون قد صار إليه لدليل ظهر له من نص أو قياس ، وجب النظر في ذلك الدليل ، فإن كان مقتضيا لما ذهب إليه وجب المصير إليه ، وإلا عمل بالخبر ، ولم يكن لمخالفة الصحابي أثر . سادسها : أن تكون المخالفة بترك الحديث بالكلية  ، كرواية  أبي هريرة  الولوغ سبعا ، ورأيه بالثلاث وهذا ذكره الإمام فخر الدين  مثالا لتخصيص الراوي عموم الخبر ، وليس منه ; لأن ألفاظ العدد نصوص لا تحتمل التخصيص . فمذهب  الشافعي  أن الاعتبار بروايته خلافا للحنفية . 
وحكى القاضي عن  عيسى بن أبان  أنه إن كان من الأئمة دل على نسخ الخبر . والمختار عند إمام الحرمين  ، وابن القشيري  أنا إن تحققنا نسيانه للخبر الذي رواه ، أو فرضنا مخالفة لخبر لم يروه ، وجوزنا أنه لم يبلغه ، فالعمل بالخبر ، فإن روى خبرا مقتضاه رفع الحرج ، والحرج فيما سبق منه تحريم وحظر ، ثم رأيناه يتحرج ، فالاستمساك بالخبر أيضا ، وعمله محمول على الورع . وإن ناقض عمله روايته ، ولم نجد محملا في الجمع ، امتنع التعلق بروايته ، فإنه لا يظن بمن هو من أهل الرواية أن يتعمد مخالفة ما رواه إلا عن ثبت يوجب المخالفة . قال ابن القشيري    : وعلى هذا فلا يقطع بأن  [ ص: 292 ] الحديث منسوخ ، كما صار إليه  ابن أبان  ، ولعله علم شيئا اقتضى ترك العمل بذلك الخبر ، ويتجه هاهنا أن يقال : لو كان ثم سبب يوجب رد الخبر ، لوجب على هذا الراوي أن يبينه ، إذ لا يجوز ترك ذكر ما عليه مدار الأمر ، والمحل محل الالتباس ، ثم قالإمام الحرمين    : وهذا غير مختص بالصحابي ، بل لو روى بعض الأئمة خبرا عمل بخلافه ، فالأمر على ما ذكرناه من التفصيل . ولكن قد اعترض الأئمة أمور أسقطت آثار أفعالهم المخالفة لروايتهم ، وهذا كرواية  أبي حنيفة  خيار المجلس مع مصيره إلى مخالفته ، فهذه المخالفة غير قادحة في الرواية ; لأنه ثبت من أصله تقديم الرأي على الخبر ، فمخالفته محمولة على قياسه على هذا الأصل الفاسد . 
ولهذا قال : أرأيت لو كانا في سفينة ، وكرواية  مالك  لهذا الحديث مع مصيره إلى نفي خيار المجلس ، وهذه المخالفة لا تقدح أيضا في الرواية ; لأن الذي حمله على هذا فيما أظن تقديمه عمل أهل المدينة  على الأحاديث الصحيحة . قال ابن القشيري    : لا ينبغي تخصيص المسألة بالراوي يروي ثم يخالف ، بل تجري فيمن يبلغه خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخالفه ، وإن لم يكن هو الراوي لذلك الخبر ، حتى إذا وجدنا محملا وقلنا : إنما خالف ; لأنه اتهم الراوي فلا يقدح هذا في الخبر ، وإن لم يتجه وجه لمخالفته إلا ولها الحديث أو المصير إلى استخفافه بالخبر ، فحينئذ يتعين أن يقال : هذا قدح في الخبر ، وعلم بضعفه . قال الإمام    : وإذا روى الراوي خبرا ، وكان الأظهر أنه لم يحط بمعناه ، فمخالفته للخبر لا تقدح في الخبر  ، وإن لم يدر أنه ناس للخبر ، أو ذاكر لما يحمل بخلافه ، فيتعلق بالخبر ; لأنه من أصول الشريعة ، ونحن على تردد  [ ص: 293 ] فيما يدفع التعلق به ، فلا يدفع الأصل بهذا التردد ، بل إن غلب على الظن أنه خالف الحديث قصدا ولم يتحققه ، فهذا يعضد التأويل ، ويؤيده ويحط مرتبة الظاهر ، ويخف الأمر في الدليل الذي عضده التأويل . قال : ولو روى خبرا ، ثم فسق ، وفي زمان الفسق خالف ما رواه  ، فلا يقدح هذا في الخبر ; لأنه محمول على مجونه ، لا على أنه يعرف ضعف الحديث . قال ابن القشيري    : يتجه أن يقال : إن الصحابي إذا روى وخالف ما روى قصدا  ، دل على ضعف الحديث ; لأنهم شاهدوا الوحي ، وعرفوا من قرائن الأحوال ما لم نعرفه . 
فأما الإمام الآن إذا خالف خبرا رواه ، وقد عمل به من قبله ، فهذا الخلاف لا يقدح فيه . قال إمام الحرمين    : وإذا كنا نقول : إذا ورد خبر ، ثم خالفه بعض الأئمة مع ذكره له ، ولم نجد محملا يقوي ضعف الحديث أو كونه منسوخا  ، فلا عمل بذلك الخبر ، فلو خالف أقضية الصحابة أو أئمة أي عصر - فرضنا - الخبر ولم نجد محملا مما ذكرنا ، فلا شك في أن هذا يقدح في الخبر إذ لا محمل لترك العمل بالخبر إلا الاستهانة ، وترك المبالاة به ، والعلم بكونه منسوخا ، وليس بين التقديرين ثالث . وقد أجمع المسلمون على وجوب اعتقاد تنزيههم عن الاستهانة بالخبر    . فتعين حمل الأمر على علمهم بورود النسخ ، وليس هذا تقديما لأقضيتهم على الخبر ، بل هو استمساك بالإجماع على وجوب حمل عملهم على وجه يمكن في الصواب ، فكان تعلقا بالإجماع في معارضة الحديث . 
ومن بديع الأمر أن مذهب الصحابي إذا نقل مفردا لا يحتج به على الصحيح  ، فإذا نقل في معارضة خبر نص على المخالفة التي لا تقبل التأويل ، تعين التعلق بقول الصحابي ، ولكن ليس هذا تعلقا بمذهب الصحابي ، بل  [ ص: 294 ] هو تعلق بما عنه صدر مذهبه ، ولهذا طردنا هذا الكلام في أمر كل عصر كما قلنا في الإجماع : إن أهل العصر لا يجمعون في مظنون عن مسلك إلا عن ثبت . 
وحمل إمام الحرمين  قول  الشافعي  إذ قال : التعويل على الخبر لا على خلاف الراوي على ما لو غلب على الظن أن الراوي كان ناسيا للخبر ، أو لم يقطع بأنه قصد الخلاف عن تعمد ، فإن الخبر مقدم عندنا أيضا في هذه الصورة . وأما إذا غلب على الظن أن الخبر بلغهم ، ولكن عملوا بخلافه  ، فقد بينا أن التعلق بالخبر ; لأنه أصل من الأصول ، فلا يتركه لشيء تردد فيه . وذكر الإمام  في كتاب الترجيح هذا ، وقال : إن لم نجد في الواقعة متعلقا سوى الخبر ، وقول الراوي ، وهو من الأئمة ، وهما على التناقض فيتمسك بالخبر ، وإن وجدنا مسلكا في الدليل سوى الخبر ، فالتمسك بذلك الدليل أولى . قال : ولو صح الخبر ، وعمل به قوم ، ولم يعمل به قوم ، والفريقان ذاكران للخبر ، والمسألة مفروضة حيث لا احتمال إلا النسخ ، فالذي أراه تقديم عمل المخالفين ; لأنهم لا يخالفون إلا عن ثبت . 
ويحمل عمل العاملين على التمسك بظاهر الحديث ، ثم العرف يقضي بأن يتبع المخالفون ما عندهم من العلم بوفاء الحديث ، وكل هذا ينبني على مسألة ، وهي أن الإجماع لو انعقد على مخالفة خبر متواتر  إن تصور ذلك ، فالتعلق بالإجماع ; لأنه حجة قطعية ، ويتطرق إلى الخبر النسخ ، فحمل الأمر على ذلك قطعا ، ويستحيل حصول الإجماع على حكم مع خبر نص على مناقضته مع الإجماع على أنه غير منسوخ ، فهذا لا يتصور وقوعه . قال : والذي أراه من ضرورة الإجماع على مناقضة الخبر المتواتر أن يلهج أهل الإجماع بكونه منسوخا . 
قال ابن القشيري    : وقد بنى  [ ص: 295 ] الإمام جملة كلامه على أن قول الصحابي فيما لا يقاس وفي المقدرات حجة    ; لأنه لا يتكلم بما يخالفه القياس الجلي إلا عن ثبت .  والقاضي  يأبى هذا أشد الإباء ، ويقول : ربما ظن أنه محل الاجتهاد ، وربما زل إذ ليس بمعصوم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					