المسألة الثانية في أنه هل تعبد بعد النبوة بشرع من قبله صلى الله عليه وسلم أم كان منهيا عنها ؟  والبحث هنا مع القائلين بالتعبد قبله . وأما من نفاه ثم [ فقد ] نفاه هاهنا بالأولى . على مذاهب . أحدها : أنه لم يكن متعبدا ، بل كان منهيا عنها ، وحكاه ابن السمعاني  عن أكثر المتكلمين  وجماعة من أصحابنا ومن الحنفية ، وهو آخر  [ ص: 43 ] قولي  الشيخ أبي إسحاق  ، كما قاله في اللمع " واختاره الغزالي  في آخر عمره ، وقال ابن السمعاني    : إنه المذهب الصحيح ، وكذا قال الخوارزمي  في الكافي " لأنه لما بعث  معاذا  إلى اليمن  لم يرشده ، بل ذكر له الكتاب والسنة والاجتهاد . ونصره الصيرفي  في الدلائل " قال : وأما حديث : كان يحب موافقة أهل الكتاب  فيما لم ينزل عليه ، فإن صح فهو محمول على الاختيار لا الوجوب . انتهى . والحديث رواه  البخاري    . 
قال بعضهم : وإنما ذلك لأنهم كانوا على بقية من دين الرسل ، فما تبين أنهم لم يحرفوه ولا بدلوه فأحب موافقتهم لقوله تعالى : { فبهداهم اقتده    } ثم قضيته أنه غير متعبد بها ولا منهي عنها . وقال النووي  في زوائده " : الأصح أنه ليس بشرع لنا ، لكن نقل ابن الرفعة  عن النص خلافه ، وقال  ابن حزم    : إنه الصحيح قال ولقد قبح  إسماعيل بن إسحاق القاضي  من المالكية في قوله : إن رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين الزانيين تعبد بما في التوراة قال : وهذا قريب من الكفر . وقال في كتابه الإعراب " : لا يجوز العمل بشيء من شرائعهم ، لقوله تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا    } واختاره الإمام الرازي  والآمدي    . المذهب الثاني : أنه كان متعبدا باتباعها ، إلا ما نسخ منها ، ونقله ابن السمعاني  عن أكثر أصحابنا وعن أكثر الحنفية وطائفة من المتكلمين    . وقال ابن القشيري    : هو الذي صار إليه الفقهاء . 
وقال سليم    : أنه قول أكثر أصحابنا ، واختاره  الشيخ أبو إسحاق  أولا في التبصرة " واختاره ابن برهان  وقال : إنه قول أصحابنا ، وحكاه  الأستاذ أبو منصور  عن  محمد بن الحسن  قال : ولذلك استدل بقصة صالح النبي  عليه السلام وقومه في شرب الناقة على إجازة المهايأة    . وقال الخفاف  في شرح الخصال " : شرائع من قبلنا واجبة علينا إلا في خصلتين : إحداهما أن يكون شرعنا ناسخا لها ، أو يكون في شرعنا ذكر لها ، فعلينا اتباع ما كان من شرعنا وإن كان في شرعهم مقدما . انتهى . واختاره  ابن الحاجب  وهو معنى قوله إذا وجدنا حكما في  [ ص: 44 ] شرع من قبلنا ولم يرد في شرعنا ناسخ له لزمه التعلق به . 
قال ابن السمعاني    : وقد أومأ إليه  الشافعي  في بعض كتبه . قلت : وقال ابن الرفعة  في المطلب " إن  الشافعي  نص عليه في الأم " في كتاب الإجارة وأنه أظهر الوجهين في الحاوي " . انتهى . وقال إمام الحرمين    :  للشافعي  ميل إلى هذا ، وبنى عليه أصلا من أصوله في " كتاب الأطعمة " ، وتابعه معظم الأصحاب . وقال في النهاية " : وقد استأنس  الشافعي  لصحة الضمان بقوله تعالى : { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم    } فكان الحمل في معنى الجعالة لمن ينادي في العير بالصواع ، ولعله كان معلوما عندهم وتعلق الضمان به ، وقال أيضا في " كتاب الضمان " فيمن حلف ليضربن عبده مائة سوط ، فضربه بالعثكول    : إنه يبرأ ، لقصة أيوب  عليه السلام ، اتفق العلماء على أن هذه الآية معمول بها في ملتنا ، والسبب فيه أن الملل لا تختلف في موجب الألفاظ وفيما يقع برا وحنثا . 
وثبت عن  ابن عباس  أنه سجد في " سورة ص " وقرأ قوله تعالى : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده    } فاستنبط التشريع من هذه الآية . رواه  أحمد   وسعيد بن منصور  وقال أبو بكر عبد الوهاب    : إنه الذي تقتضيه أصول  مالك    . وكذا قال القرطبي    : ذهب إليه معظم أصحابنا . وقال  ابن العربي  في القبس " : نص عليه  مالك  في " كتاب الديات " من الموطإ " . ولا خلاف عنده فيه . وإذا قلنا بأنه شرع لنا فقيل : شرع إبراهيم  صلوات الله عليه وحده ، وقيل : شرع موسى  عليه السلام شرعنا إلا ما نسخ بشريعة عيسى    . وقيل : شريعة عيسى  وحده . حكاه الشيخ  في اللمع "  والقاضي عبد الوهاب  وغيرهما : ونقلا الخلاف بعينه في الملتين . وقال الماوردي  في الحاوي " : ما تضمنته شرائع من قبلنا ، فيما لم يقصه الله علينا في كتابه ، لا يلزمنا  [ ص: 45 ] حكمه ، لانتقاء العلم بصحته . وأما ما قصه علينا في كتابه لزمنا فيه شرائع إبراهيم  ، لقوله تعالى : { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم    } . وفي لزوم ما شرعه غيره من الأنبياء وجهان : ( أحدهما ) : يلزمه ، لكونه حقا ما لم يقم دليل على نسخه . و ( الثاني ) : لا يلزم ، لكون أصله منسوخا . انتهى . 
وما ذكره من الوفاق على إبراهيم  ذكره القاضي ابن كج  في أول كتاب التجريد " فقال : اختلف أصحابنا في شرائع من قبلنا ، هل تلزمنا ؟  ولم يختلفوا في أن شريعة إبراهيم  لازمة لنا . وقال في كتابه الأصول " : إذا ثبت في شريعة موسى  شيء ، هل يجوز بعد بعث محمد  صلى الله عليه وسلم التمسك به ؟ وجهان : ( أحدهما ) : يجب علينا الاقتداء بشرائعهم إلى أن يمنع من ذلك شرعنا . ( والثاني ) : لا اقتداء إلا بشريعة إبراهيم    . قال ابن القطان    : كان أبو العباس بن سريج  يقول : ما حكى الله في كتابه عنهم فهو حق ، وهو واجب في شريعتنا إلا أن يغير عنه . وقد كان سائر أصحابنا يقولون : ما حكي لنا عنهم مما تقوم به الحجة من المستفيض والمتواتر سواء في أنه على وجهين . انتهى . المذهب الثالث : أنه لم يتعبد فيها بأمر ولا نهي . حكاه ابن السمعاني    . المذهب الرابع : الوقف . حكاه ابن القشيري    . وحكى ابن برهان  في الأوسط " عن أبي زيد  ، أن ما أخبر الله عن الأنباء المتقدمين ، كقسمة المهايأة في قوله تعالى : { ونبئهم أن الماء قسمة بينهم    } وقوله : { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم    } وقوله : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس    } . . . قال : فهذا يكون شرعنا ، لأنه مصون عن التحريف . 
وهذا لا يصلح جعله مذهبا بالتفصيل ، لاقتضائه أن القائل بأنه شرع بقوله وإن احتمل التبديل ، وهو لا يقوله أحد ويحتمل أن يجعل المنقول عنهم عما في القرآن خاصة كما هو ظاهر عبارة الماوردي  السابقة ، فيجيء  [ ص: 46 ] حينئذ التفصيل ، إلا أنه لا وجه لهذا التخصيص . ولهذا قال  القرطبي    : فيما إذا بلغنا شرع من تقدمنا على لسان الرسول ، أو لسان من أسلم  كعبد الله بن سلام   وكعب الأحبار  ، ولم يكن ذلك منسوخا ولا مخصوصا بأحد . انتهى . 
قلت    : ويلحق بهم  النجاشي  ، 
وقد روى  ابن حبان  في صحيحه " عن عامر بن شهر  قال : كلمتان سمعتهما ، ما أحب أن لي بواحدة منهما الدنيا وما فيها ، إحداهما من  النجاشي  ، والأخرى من النبي صلى الله عليه وسلم . فأما التي سمعتها من  النجاشي  فإنا كنا عنده إذ جاءه ابن له من الكتاب يعرض لوحه قال : وكنت أفهم بعض كلامهم ، فمر بأية فضحكت . فقال : ما الذي أضحكك ؟ ، والذي نفسي بيده لأنزلت من عند ذي العرش أن عيسى ابن مريم  قال : إن اللعنة تكون في الأرض إذا كانت إمارة الصبيان . والذي سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { اسمعوا من قريش  ودعوا فعلهم   } . قلت    : وقد فرقه أبو داود  ، فروى أوله في " كتاب الجراح " وباقيه في " كتاب السنة " . وقال فيه  ابن عبد البر    : حديث حسن . وروى  عبد الله بن المبارك  عن عبد الرحمن بن يزيد  عن عبد الرحمن    : " رجل من أهل صنعاء    " قال : أرسل  النجاشي  ذات يوم وراء أصحابه فدخلوا عليه وقد جلس على التراب ولبس الخلقان ، فبشرهم بنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ببدر  ، فسألوه عن جلوسه على  [ ص: 47 ] هذه الحالة ، فقال : إنا نجد في كتاب الله تعالى الذي أنزله على عيسى  صلى الله عليه وسلم : إن حقا على عباد الله أن يحدثوا لله تواضعا عند كل ما أحدث لهم من نعمة . فلما أحدث الله نصر نبيه أحدثت لله هذا التواضع . 
وروى  الحاكم  في المستدرك " عن عكرمة  عن  ابن عباس  عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { مكتوب في التوراة : من سره أن تطول حياته ، ويزداد في رزقه فليصل رحمه   } . وقال : حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة . والقول بجريان هذا في أخبار من لم يطلع النبي صلى الله عليه وسلم عليه بعيد . وقال إلكيا  ما حاصله : المراد بشرع ما قبلنا  ما حكاه الله ورسوله عنهم أما الموجود بأيديهم فممنوع اتباعه بلا خلاف . قال : وعلة المنع إما لتهمة التحريف ، وإما لتحقق النسخ . قال ووقع الإجماع على أحد هذين الاحتمالين . وتظهر فائدتهما فيما حكاه الله لنبيه من شرعهم . 
فإن قلنا : التهمة التحريف فلا يتجه . وإن قلنا لتحقق النسخ اطرد ذلك في المحكي وغيره . قلت    : ولهذا فصل أبو زيد  والماوردي  ما سبق . 
تنبيهات الأول قال المقترح    : هذا الخلاف مبني على أن كل شريعة لما وردت ، كانت خاصة أو كانت عامة ، فالذي فصل يقدر أن تكون عامة ، وهل اندرست أم لا ؟ والذي يدعي أنها شرع لنا يحتاج إلى إثبات أنها حيث وردت دامت ولم تندرس . وقالابن برهان    : هو مبني على أن نفس بعثة الأنبياء لا تصلح أن تكون ناسخة ومغيرة . وعندهم : تصلح لذلك . 
 [ ص: 48 ] الثاني قال  الأستاذ أبو منصور  وغيره : فائدة الخلاف في هذه المسألة تظهر في حادثة ليس فيها نص ولا إجماع ، ولها حكم شرعي معلوم في شرع قبل هذا الشرع ، هل يجوز الأخذ به أم لا ؟ . ومن فروعه : ما إذا تعذر الاطلاع على حكم ما يحل أكله ويحرم ، وثبت تحريمه بشرع سابق بنص أو شهادة  فقولان : أحدهما : أنا نستصحبه حتى يظهر ناسخ وناقل . و ( أصحهما ) : لا ، بل يعمل بظاهر الآية من الحل . وعلى الأول فلو اختلف فيه ، ففي الحاوي " للماوردي    : إنما يعتبر حكمه في أقرب الشرائع بالزمن للإسلام . وإن اختلفوا فوجهها تعارض الأشباه . الثالث قال القاضي  في التقريب " : ليس تحقيق الخلاف أن يقول المخالف : إنه قد أمر بمثل شرع من تقدم ، لأن أحدا لا ينكر هذا ، فإن كان هذا قول المخالفين فإنه ورد عليه أمر مستأنف مبتدأ موافق لشرع من قبله ، فقد وافقوا على المعنى ، وإنما الخلاف في أنه هل يلزمه بعد المبعث العمل بشريعة من قبله على وجه الاتباع لنبي قبله وفرض لزوم دعوته ؟ قال القاضي    : فهذا هو الباطل الذي ننكره . . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					