وأما الثاني : فاعلم أنه نقل عن مجتهد في مسألة واحدة قولان متنافيان  فله حالتان : ( الحالة الأولى ) : أن يكون في موضع واحد بأن يقول : في هذه المسألة قولان ، ثم إما أن يعقب بما يشعر بالترجيح لأحدهما بأن يقول : أحبهما إلي وأشبههما بالحق عندي ، وهذا مما أستخير الله فيه ، أو يقول : هذا قول مدخول أو منكر ، فيكون ذلك قوله لأنه الذي ترجح عنده قال أبو القاسم بن كج    : ولا يجوز أن يقال : إنه على قولين ، لأنه إنما ذكر الآخر ليبعث على طريق الاجتهاد وإما أن لا يفعل ذلك ، فاختلفوا فيه على ثلاثه مذاهب : ( أصحها ) : أنه لا ينسب إليه قول في المسألة ، بل هو متوقف لعدم ترجيح دليل أحد الحكمين في نظره ، وقوله : " فيه قولان " أي : احتمالان لوجود دليلين متساويين ، لا أنهما مذهبان لمجتهدين . 
قال  القاضي أبو الطيب    : ولا نعرف مذهبه منهما لأنه لا يجوز أن يكونا مذهبين وهذا ما جزم به في المحصول " وغيره ( والثاني ) : يجب اعتقاد نسبة أحدهما إليه ، ورجوعه عن الآخر غير معين دون نسبتهما جميعا ، ويمتنع العمل بهما حتى يتبين كالنصين إذا علمنا نسخ أحدهما غير معين ، وكالراوي إذا اشتبه عليه ما رواه من شيئين وهذا قول الآمدي  ، وهو أحسن من الذي قبله ، وإن كان خلاف عمل الفقهاء ( والثالث ) : أن له قولين ، وحكمهما التخيير ، قاله القاضي  في التقريب " : قال إمام الحرمين  في التلخيص " : وهذا بناه القاضي  على  [ ص: 135 ] اعتقاده أن مذهب  الشافعي  تصويب المجتهدين ، لكن الصحيح من مذهبه أن المصيب واحد ، فلا يمكن منه القول بالتخيير ، وأيضا فقد يكون القولان بتحريم وإباحة ، ويستحيل التخيير بينهما واعلم أن وقوع ذلك في مجلس واحد من دون ترجيح قليل ، حتى نقل  ابن كج  عن القاضي أبي حامد المروزي  أنه ليس  للشافعي  مثل ذلك إلا سبعة عشر موضعا وقال  الشيخ أبو إسحاق  في شرح اللمع " : إلا بضعة عشر موضعا ، ستة عشر أو سبعة عشر ووقع في المحصول " ذلك للشيخ  أبي حامد الإسفراييني  وجزم بأنها سبعة عشر ، وكأنه اشتبه عليه ، لكن رأيت بخط الشيخ أبي عمرو بن الصلاح    - رحمه الله - فيما انتخبه من كتاب شرح الترتيب " للأستاذ أبي إسحاق  ما لفظه : كان أبو حامد  يذكر أن  الشافعي  لا يبلغ ما له من المسائل التي اختلف أقاويله فيها أكثر من أربع أو خمس ، والباقي كلها قطع فيها بأحد القولين والأقاويل فإنه ذكر في بعضها : وهذا أشبه بالحق ، وفي بعضها : وهو الأقيس ، وفي بعضها : وهو أولاها ، وغير ذلك من الألفاظ الدالة على القطع . 
وقال  القاضي أبو بكر الباقلاني  في مختصر التقريب " : قال المحققون : إن ذلك لا يبلغ عشرا وقال  القاضي أبو الطيب الطبري    : قال أصحابنا : لم يوجد له من هذا النوع إلا ستة عشر ، قالوا : ويحتمل أن يكون قد تعين له الحق منهما ومات قبل بيانه ويحتمل أن يكون قد تعين له وكان متوقفا فيهما فإن قيل : فإذا لم يكونا مذهبين فليس لذكرهما في موضع واختيار أحدهما معنى ، وكذلك إذا لم يتبين له الحق فيهما فليس لذكرهما فائدة ، فالجواب أن  الشافعي  ذكرهما ليعلم أصحابه طرق استخراج العلل والاجتهاد ، وبيان ما يصحح العلل ويفسدها ، لأنه يحتاج أن يبين مدارك الأحكام كما يبين الأحكام ، ولأنه يفيد أن ما عداهما باطل ، وأن الحق في أحدهما ( انتهى كلام القاضي    )  [ ص: 136 ] 
وقال الغزالي    : إنما يذكر القولين في هذه الحالة ، إما لأنه لم يتم نظره في المسألة ، وإنه في مدة النظر ويرجع حاصله إلى الوقف والاحتياط ، وذلك غاية الورع وهو دأب الصحابة والسلف  ، كما قال  عثمان  في الجمع بين الأختين في ملك اليمين : أحلتهما آية وحرمتهما آية قال : ويتجه في هذا ثلاثة أسئلة : ( أحدها ) : أن المفتي إنما يفتي بالحكم لا بالتردد وجوابه أن المسائل المنقولة عن  الشافعي    - رحمه الله تعالى - في مسائل الفروع قريب من ستين ألف مسألة على ما حكى بعض الأصحاب ، وإنما جمع القول متردد في بضع عشرة مسألة ، وما نص عليه يوجد منه حكم هذا التردد ( الثاني ) : إن كان حاصله التردد فما فائدة ذكرها ؟ وجوابه : له خمس فوائد : ( 1 ) - وضع تصوير المسائل لأنه أمر صعب ( 2 ) - والتحريك لداعية النظر فيها ( 3 ) - وحثه لأصحابه لتخريجها على أشبه أصوله ( 4 ) - وإنه يكفي مؤنة النظر من الاحتمالات ، لأنه لا يحتمل سوى ما ذكره ( 5 ) - وذكر توجيهها فإنه لا بد أن يذكر وجه كل ، فتحصل معرفة الأدلة ومدارك العلماء ، ويهون النظر في طلب الترجيح فإن طلب الترجيح وحده أهون من طلب الدليل فعلى كل ناظر في المسألة هذه الوظائف الخمس تصويرها وطلب الاحتمالات فيها ، وحصر ما ينقدح من تلك الاحتمالات وطلب أدلتها وطلب الترجيح  والشافعي  قام بالوظائف الأربع ولم يترك إلا الخامسة ، فكيف تنكر فائدة القولين ؟ . 
، ( الثالث ) : ما يلزم عليه أن لا قول  للشافعي  في المسألة ، فكيف يقال : له قولان ؟ ، وجوابه أن المراد أن المسألة تحتمل قولين ، ولا يمتنع أن  [ ص: 137 ] يقال : لفلان في الحادثة رأيان متردد بينهما انتهى وكذلك قال إمام الحرمين  في التلخيص " : لا يمتنع من إطلاق القولين ، وإنما وجه الإضافة إلى  الشافعي  ذكره لها واستقصاؤه وجوه الأشباه فيها . 
				
						
						
