[ ص: 124 ] مسألة [ خطاب الكفار بفروع الشريعة    ] 
سبق أن حصول الشرط العقلي من التمكن والفهم ونحوهما شرط في صحة التكليف ، أما حصول الشرط الشرعي فلا يشترط في صحة التكليف بالمشروط خلافا لأصحاب الرأي ، وهي مفروضة في تكليف الكفار بالفروع ، وإن كانت أعم منه . 
ومنهم من عبر عنها بأنه هل يشترط التكليف في الإمكان في الجملة وهو قولنا ، أو الإمكان ناجزا وهو وقول الحنفية ؟ 
ثم اعلم أن المأمور به إما أن يكون مرتبا على ما قبله أو لا ، فإن كان غير مرتب وهي أصول الشريعة فهم مكلفون بها إجماعا ، ويلتحق بذلك كما قاله القاضي  تصديق الرسل وعدم تكذيبهم ، والكف عن قتلهم وقتالهم ا هـ . مع أن الكف عن قتالهم من الفروع .  [ ص: 125 ] 
وحكى المازري  عن قوم من المبتدعة أن الكفار غير مخاطبين بهذه المعارف . قال : واختلفوا فمنهم من رآها ضرورية ، فلهذا لم يؤمروا بها ، ومنهم من رآها كسبية ، ولكنه منع الخطاب لما يذكر في غير هذا الفن . ا هـ . 
وتردد بعض المتأخرين في كلمتي الشهادة هل هي من الفروع ؟  حتى لا يكلفوا بها على قول ، لأن الإيمان هو التصديق والشهادة شرط لصحته ، وفيه نظر . 
ومقدمات الإيمان ، كالنظر هل هي ملحقة بالإيمان حتى تكون واجبة عليه أو يأتي فيه الخلاف في مقدمة الواجب ؟ فيه نظر ، وإن كان مرتبا على ما قبله ، وهي فروع الشريعة ، فالكلام في الجواز والوقوع . 
[ جواز خطاب الكفار بالفروع عقلا ] 
أما الجواز عقلا فمحل وفاق كما قاله إلكيا الطبري  ، ومراده وفاق أصحابنا ، وإلا فقد نقل عن ابن برهان  في " الأوسط " عن عبد الجبار  وغيره أنه لا يجوز أن يخاطبوا عقلا بالفروع ، وحكاه صاحب " كفاية الفحول في علم الأصول " من الحنفية فقال : أجازه عقلا قوم ومنعه آخرون . 
[ جواز خطاب الكفار بالفروع شرعا ] 
أما شرعا ففيه مذاهب : أحدها : أنهم مخاطبون بها مطلقا في الأوامر والنواهي بشرط تقدم  [ ص: 126 ] الإيمان ، لقوله تعالى : { ما سلككم في سقر    } الآيات ، ولأنه تعالى ذم قوم شعيب  بالكفر ونقص المكيال ، وقوم لوط  بالكفر وإتيان الذكور ، وذم عادا  قوم هود  بالكفر وشدة البطش بقوله تعالى : { وإذا بطشتم بطشتم جبارين    } ونص عليه  الشافعي  في مواضع : منها : تحريم ثمن الخمر عليهم ، وقال في " الأم " في باب حج الصبي يبلغ ، والمملوك يعتق ، والذمي يسلم ، فيما إذا أهل كافر بحج ، ثم جامع ، ثم أسلم قبل عرفة  فجدد إحراما وأراق دما لترك الميقات  أجزأته عن حجة الإسلام ، لأنه لا يكون مفسدا في حال الشرك ، لأنه كان غير محرم . 
قال : فإن قال قائل : فإذا زعمت أنه كان في إحرامه غير محرم ، أفكان الفرض عنه موضوعا ؟ 
قيل : لا بل كان عليه وعلى كل واحد أن يؤمن بالله عز وجل ورسوله ويؤدي الفرائض التي أنزلها الله تبارك وتعالى على نبيه ، غير أن السنة تدل ، وما لم أعلم [ المسلمين ] اختلفوا فيه أن كل كافر أسلم ائتنف الفرائض من يوم أسلم ، ولم يؤمر بإعادة ما فرط فيه في الشرك منها ، وأن الإسلام يهدم ما قبله إذا أسلم ثم استقام . هذا لفظه . وهو قول أكثر أصحابنا كما حكاه القاضيان الطبري  والماوردي  وسليم الرازي  في " التقريب "  والشيخ أبو إسحاق  والحليمي    . 
وقال في " المنهاج " : إنه مفرع على قولنا : إن الطاعات من الإيمان . 
قال : وقد ورد في الحديث : أن رجلا قال : يا رسول الله أيؤاخذ الله أحدا بما عمل في الجاهلية ؟ قال : { من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل  [ ص: 127 ] في الجاهلية ، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر   } . 
قال : وهذا يدل على المؤاخذة بالنواهي إذا يحسن في الإسلام ، لانتفاء ما يحبطها بخلاف من أسلم وأحسن فإن . إسلامه يحبط كفره ، وحسناته تحبط سيئاته ومجرد الإسلام لا ينافي المعاصي لجواز صدورها من السلم فلا يكون محبطا لها . ا هـ . 
وقال  القاضي عبد الوهاب   وأبو الوليد الباجي    : إنه ظاهر مذهب  مالك  وكذلك نقلوه عن  أحمد بن حنبل  في أصح الروايتين عنه ، وهو محكي عن  الكرخي  والجصاص  من الحنفية أيضا . وقال أبو زيد الدبوسي    . إنه قول أهل الكلام ، ومذهب عامة مشايخ أهل العراق  من الحنفية ، لأن الكفر رأس المعاصي فلا يستفيد به سقوط الخطاب . 
والقول الثاني : أنهم غير مكلفين بالفروع وهو قول جمهور الحنفية ، وبه قال عبد الجبار  من المعتزلة   والشيخ أبو حامد الإسفراييني  من أصحابنا كما رأيته في كتابه . عبارته : إنه هو الصحيح عندي ، ووقع في " المنتخب " نسبته لأبي إسحاق الإسفراييني  ، وهو غلط ، فإن أبا إسحاق  يقول بتكليفهم كما نقله الرافعي  عنه في أول كتاب الجراح وهو كذلك موجود في كتابه في الأصول : ظاهر كلام  الشافعي  يدل عليه ، قال : والصحيح من مذهبه : ما بدأنا به . ا هـ .  [ ص: 128 ] 
وقال الإبياري    : إنه ظاهر مذهب  مالك    . 
قلت : اختاره ابن خويز منداد المالكي  ، وقال في كتابه المسمى " بالجامع " إنه الذي يأتي عليه مسائل  مالك  أنه لا ينفذ طلاقهم ، ولا أيمانهم ولا يجري عليهم حكم من الأحكام . 
وزاد حتى قال : إنهم إنما يقطعون في السرقة ، ويقتلون في الحرابة من باب الدفع ، فهو تعزير لا حد ، لأن الحدود كفارات لأهلها وليست هذه كفارات . وزاد ، فقال : إن المحدث غير مخاطب بالصلاة إلا بعد فعل الطهارة ، واستدل على ذلك من كلام  مالك  رضي الله عنه بقوله في الحائض : إنها تنتظر ما بقي من الوقت بعد غسلها وفراغها من الأمر اللازم . 
وقال أبو زيد الدبوسي    : ليس عن أصحابنا المتقدمين في هذه المسألة نص ، وإنما تؤخذ من فروعهم ، وقد ذكر  محمد بن الحسن  أن من نذر الصوم ، ثم ارتد ثم أسلم  لم يلزمه قضاؤه ، لأن الشرك أبطل كل عبادة ، وإنما أراد وجوبها ، لأنه لم يؤده بعد . 
قال : ولم أر لهذا المذهب حجة يعتمد عليها ، وقد تفكرت في ذلك فلم أجد إلا أن الكافر ليس بأهل للعبادة ، لأنه لا يثاب كما لم يجعل العبد أهلا لملك المال فلما لم يكن من أهل الملك لم يكن من أهل الخطاب . 
وقال العالم من الحنفية : لم ينقل عن ثقة من أصحابنا نص في المسألة ، لكن المتأخرين منهم خرجوا على تفريعاتهم ، فإن  محمدا  قال : إن الكافر إذا دخل مكة  فأسلم وأحرم  لم يكن عليه دم لترك الميقات ، لأنه لم يكن عليه ،  [ ص: 129 ] ولو كان للكافر عبد مسلم لا تجب عليه صدقة فطره ، ويحل للمسلم وطء زوجته النصرانية إذا خرجت من الحيض لعادتها دون العشرة قبل أن تغتسل  ، ويمضي عليها وقت صلاة ، لأنه ليس عليهم . 
وقال السرخسي  ، لا خلاف أنهم مخاطبون بالإيمان والعقوبات والمعاملات في الدنيا والآخرة ، وأما في العبادات بالنسبة إلى الآخرة كذلك . 
أما في حق وجوب الأداء في الدنيا فهو موضع الخلاف ، فذهب العراقيون  من مشايخنا إلى أنهم مكلفون ، لأنه لو لم تجب لم يؤاخذوا على تركها . قال : وهذه المسألة لم ينص عليها أصحابنا ، لكن بعض المتأخرين استدلوا من مسائلهم على هذا ، وعلى الخلاف بينهم وبين  الشافعي  ، فإن المرتد إذا أسلم لا يجب عليه قضاء صلوات الردة  خلافا  للشافعي  فدل على أن المرتد غير مخاطب بالصلاة عندنا ، ثم ضعف الاستدلال . قال : ومنهم من جعل هذه المسألة فرعا لأصل معروف بيننا وبينهم : أن الشرائع عنده من نفس الإيمان ، وهم مخاطبون بالإيمان ، فيخاطبون بالشرائع ، وعندنا ليست من نفس الإيمان فلا يخاطبون بأدائها ما لم يؤمنوا ، وهذا ضعيف ، فإنهم مخاطبون بالعقوبات والمعاملات وليس ذلك من الإيمان . 
قال ابن القشيري    : والقائلون بأنهم غير مخاطبين انقسموا فمنهم من صار إلى استحالة تكليفهم عقلا ، ومنهم من لم يحله ، ولكنهم مع الجواز لم يكلفوا . 
وقال القاضي    : أقطع بالجواز ، ولا أقطع بأن هذا الجائز وقع ، ولكن يغلب على الظن وقوعه . 
والثالث : أنهم مكلفون بالنواهي دون الأوامر ، لأن الانتهاء ممكن في  [ ص: 130 ] حالة الكفر ، ولا يشترط فيه التقرب ، فجاز التكلف بها دون الأوامر ، فإن شرطها العزيمة ، وفعل التقريب مع الجهل بالمقرب إليه محال ، فامتنع التكليف بها . 
وحكى النووي  هذه الثلاثة في " التحقيق " أوجها للأصحاب ، وسبق حكاية الأستاذ  وابن كج  الأولين قولين  للشافعي  ، وعلله الشيخ أبو المعالي عزيزي بن عبد الملك  في كتاب " بيان البرهان " بأن العقوبات تقع عليهم في فعل المنهيات دون ترك المأمورات . ألا ترى أنهم يعاقبون على ترك الإيمان بالقتل والسبي وأخذ الجزية ، ويحد في الزنا والقذف ويقطع في السرقة ، ولا يؤمر بقضاء شيء من العبادات ، وإن فعلها في كفره لم تصح منه ؟ ونقله صاحب " اللباب " من الحنفية عن  أبي حنيفة  وعامة أصحابه . [ تكليف الكفار بالنواهي    ] 
وذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا خلاف في تكليفهم بالنواهي ، وإنما الخلاف في تكليفهم بالأوامر . قاله  الشيخ أبو حامد الإسفراييني  في كتابه " الأصول " والبندنيجي  في أول كتاب قسم الصدقات من " تعليقه " قال : وأما المعاصي فمنهيون عنها بلا خلاف بين المسلمين ، وهذه طريقة جيدة .  [ ص: 131 ] 
وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني  في كتابه في الأصول : لا خلاف أن خطاب الزواجر من الزنا والقذف يتوجه على الكفار كما يتوجه على المسلمين . ا هـ . 
وهذا يوجب التوقف فيما حكاه الرافعي  عن الأستاذ أبي إسحاق  فيما إذا قتل الحربي مسلما أو أتلف عليه مالا ثم أسلم  أنه يجب ضمانها إذا قلنا : إن الكفار مخاطبون بالفروع . قال : وذكر العبادي  أنه يعزى ذلك أيضا  للمزني  في " المنثور " . وقال المازري    : لا وجه لهذا التفضيل ، لأن النهي في الحقيقة أمر ، وكأنهم قالوا : إن التروك لا تفتقر إلى تصور بخلاف الفعل 
والرابع : أنهم مخاطبون بالأوامر فقط . حكاه ابن المرحل  في " الأشباه والنظائر " ولعله انقلب مما قبله ، ويرده الإجماع السابق على تكليفهم بالنواهي . 
والخامس : أن المرتد مكلف دون الكافر الأصلي . حكاه  القاضي عبد الوهاب  في " الملخص "  والطرطوشي  في " العمدة " ، لالتزام أحكام الإسلام . ولا معنى لهذا التفصيل ، لأن مأخذ النقي فيهما سواء ، وهو جهله بالله تعالى ، ومقتضى هذا أن الخلاف يطرق الأصل والمرتد لكن ظاهر  [ ص: 132 ] عبارة الإمام  في " المحصول " أن الخلاف لا يطرق المرتد ، والأشبه الأول . 
ولهذا نقل الأصحاب عن الحنفية أن الردة تسقط الأعمال السابقة وتمنع الوجوب في الحال . ولهذا قالوا : إن المرتد لا يقضي صلاة أيام ردته ، وعندنا تلزمه . 
وقال  القاضي الحسين  في تعليقه " : يمكن بنا الخلاف في إحباط الردة الأعمال على أن الكفار مخاطبون بالشرائع أم لا ؟ فإن قيل : لو ساوى المرتد الأصلي لم يجب عليه قضاء أيام ردته . 
قلت    : إنما وجب القضاء على المرتد ، لأن الإسلام بخروجه منه لا يسقط بخلاف الأصلي ، وقد قال  الشافعي    : في الزكاة على المرتد  قولان أحدهما : يجب ، والثاني موقوف . قال  ابن أبي هريرة    : وهو نظير الصلاة ، لأنه كما إذا أسلم يزكي فكذا إذا أسلم يصلي . 
والسادس : أنهم مكلفون بما عدا الجهاد ، أما الجهاد فلا ، لامتناع قتالهم أنفسهم ، حكاه القرافي    . قال : ولا أعرف أين وجدته . 
قلت : صرح به إمام الحرمين  في " النهاية " ، فقال : والذمي ليس مخاطبا بقتال الكفار ، وكذا قال الرافعي  في " كتاب السير " : الذمي ليس من أهل فرض الجهاد . ولهذا إذا استأجره الإمام على الجهاد  لا يبلغ به سهم راجل على أحد الوجهين ، كالصبي والمرأة . نعم يجوز للإمام استئجاره على الجهاد على الأصح ، وهذا يدل على أنه غير فرض عليه ، وإلا لما جاز كما لا يجوز استئجار المسلم عليه . 
السابع : الوقف . حكاه سليم الرازي  في تقريبه " عن بعض الأشعرية  ، وحكاه الشيخ أبو حامد الإسفراييني  عن الأشعري  نفسه .  [ ص: 133 ] 
وقال إمام الحرمين  في " المدارك " : عزي إلى  الشافعي  ترديد القول في خطاب الكفار بالفروع ونصه في " الرسالة " : الأظهر أنهم مخاطبون بها . 
قلت    : وقد يخرج من تصرف الأصحاب في الفروع مذهب ثامن : وهو التفصيل بين الحربي فليس بمكلف دون غيره ، ولهذا يقولون في القصاص والسرقة والشرب وغير ذلك : لا يجب حدها على الحربي ، لعدم التزامه الأحكام بخلاف الذمي . وحكى  الطرطوشي  في " العمدة " أن الواقفية  من علمائهم وافقوا على كونهم مخاطبين إلا أنهم قالوا : إن دخولهم في الخطاب لم يكن بظواهرها ، وإنما دخلوها بدليل . ا هـ وبه يخرج مذهب تاسع . 
وقال إمام الحرمين  في " التلخيص " : الصائرون إلى أنهم مخاطبون لا يدعون ذلك عقلا وجوبا بل يجوزون في حكم العقل خروجهم عن التكليف في أحكام الشرع . كيف وقد أخرج كالحائض عن التزام الصلاة والصيام ؟ ولكن هؤلاء يزعمون أن تكليفهم سائغ عقلا وترك تكليفهم جائز عقلا غير أن في أدلة السمع ما يقتضي تكليفهم ، وأما الذين صاروا إلى منع تكليفهم ، فاختلفوا ، فمنهم من صار إلى استحالته ، ومنهم من جوزه عقلا ومنع إبطال أدلة السمع بهم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					