[ ص: 316 ] المسألة الخامسة 
إذا ورد اللفظ العام ، ثم ورد عقيبه تقييد بشرط أو استثناء أو صفة أو حكم  ، وكان ذلك لا يتأتى إلا في بعض ما يتناوله العموم ، فهل يجب أن يكون المراد بذلك العموم ذلك البعض أو لا ؟ فيه قولان ، والمذهب كما قاله ابن السمعاني    : أنه لا يجب أن يكون المراد بالعموم تلك الأشياء فقط ، وبه جزم  الشيخ أبو حامد الإسفراييني  ، فقال : بل يحمل الأول على عمومه ، والآخر على أنه بيان لبعض حكم الأول . قال :  وأبو حنيفة  يوافقنا على هذه القاعدة ، وإن خالفنا في مثل : { لا يقتل مسلم بكافر ، ولا ذو عهد في عهده   } . انتهى . 
وجزم به  أبو بكر الصيرفي  في كتاب الدلائل والأعلام " ،  والقفال الشاشي  في كتابه ، وابن القشيري  وإلكيا الطبري  ،  والشيخ أبو إسحاق  وسليم  في " التقريب " ، وابن الصباغ  في " العدة " ، وبه جزم  أبو بكر الرازي  من الحنفية ونقله عن  عيسى بن أبان  وغيره . 
وقالت الحنفية : إن ذلك يقتضي تخصيصه ، وبه قال القاضي من الحنابلة ، وقال : إنه ظاهر كلام  أحمد    . قال سليم    : وإلى هذا ذهب  أبو حنيفة  ، وإنما خالفه في اعتبار مسائل خص عموم أولها بخصوص آخر ، كقوله : { لا يقتل مسلم بكافر   } الحديث . فحمل أول الحديث على الكافر الحربي والمستأمن ; لأجل آخره . لنا أن العام إنما يخص بما ينافيه . قلت    : ونقل الرافعي  في أول باب قاطع الطريق عن أكثر العلماء من أصحابنا وغيرهم أن الآية في المسلمين دون الكفار ، وأنهم احتجوا على ذلك بقوله : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم    } الآية فدل هذا الاستثناء على أنها في المسلمين . انتهى . وذهب بعض الأصوليين إلى الوقف ، واختاره أبو الحسين البصري  في  [ ص: 317 ] المعتمد " كذا رأيته فيه ، وكذا حكاه ابن برهان  في " الأوسط " ، وابن السمعاني  في " القواطع " ، ونقل ابن الحاجب  عنه أنه يخصص ، وهو وهم . قلت    : ونص عليه  الشافعي  في " الأم " ونقله عن  ابن عباس    . واعلم أن  للشافعي  في المسألة نصا صريحا ، لكن وقع في كلامه ما يقتضي الأمرين ، فأما ما يدل على أنه تخصيص فمواضع : 
أحدها : أنه قال في " الأم " في قوله تعالى : { كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده    } : إن الضمير عائد على بعض ما تقدم ، وهو الزرع ، لا النخل والزيتون ، لأن الحصاد لا يكون إلا في الزرع ، فلم يوجب الزكاة إلا في الزرع ، وحمل الإتاء العام عليه ، لأجل الضمير المخصص . 
الثاني : أنه قال في قوله تعالى : { انفروا خفافا وثقالا    } : إن هذا وإن كان لفظه عاما للحر والعبد ، إلا أنه خاص بالحر لقوله بعده : { وجاهدوا بأموالكم    } والعبد لا يملك . 
الثالث : قوله في الاحتجاج على أن العبد لا يملك الطلاق الثلاث بقوله سبحانه { الطلاق مرتان    } . لأنه وإن كان عاما لكنه خاص بالحر ، لأجل قوله : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن    } والعبد لا يعطي شيئا . 
الرابع : أنه استدل على أن العبد لا تحل له أربع زوجات بقوله : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع    } وقال : هذا خاص بالحر ، لقوله { أو ما ملكت أيمانكم    } فإن العبد لا يملك .  [ ص: 318 ] 
الخامس : آية المحاربة السابقة . وأما المواضع التي تدل على أنه ليس بتخصيص ، فمنها أن ظهار الذمي عنده صحيح مع أن قوله تعالى عقب قوله : { والذين يظاهرون    } { وإن الله لعفو غفور    } ، وهو لا يكون إلا للمؤمنين . فلم يجعل هذا مخصصا لعموم { الذين يظاهرون    } . 
ومنها : أن إيلاء الذمي عنده صحيح ، مع أن قوله تعالى عقبه : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم    } فلم يجعله مخصصا . 
فخرج من هذا أن  للشافعي  في المسألة قولين : أصحهما أنه تخصيص كما دل عليه الأكثر من كلامه إلا أن يدل دليل على عدم المخصص ، فيعمل به ، كإيلاء الذمي ، وظهاره . 
وقد مثلوا الاستثناء بقوله تعالى : { إلا أن يعفون    } بعد قوله : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء    } ومعلوم أن العفو لا يكون إلا من البالغة الرشيدة ، فهل يتخصص النساء بهن ؟ قال صاحب المصادر : وهذا ليس بوزان المسألة ، لأنه إنما يصح لو لم يذكر بعده { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح    } فقد ذكر حكم البلغ ، وحكم غيرهن . 
ومثال الصفة قوله : { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا    } ، بعد قوله : { إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن    } ويعني بالأمر الرغبة في رجعتهن ، ومعلوم أن ذلك لا يتأتى في البائنة ، فكان الأول عاما في المطلقات . قال القفال    : ولهذا جعل أصحابنا قوله : { إذا طلقتم النساء فطلقوهن    } فيما يملك الزوج من عدد الطلاق ، وإن كان قوله : { لا تدري لعل الله يحدث بعد  [ ص: 319 ] ذلك أمرا    } يقتضي تخصيصه بالرجعي . 
ومثال رجوع الضمير قوله : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء    } ، فهذا عام في الرجعية والبائن المدخول بها ، ثم قوله : { وبعولتهن أحق بردهن    } ، وهذا لا يتأتى في البائن . وقوله تعالى : { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة    } ، وهذا عام في المسلمين والمشركين ، ثم قال : { لقد تقطع بينكم    } وهي خاصة بالمشركين . 
وجعل بعض المتأخرين مدرك الخلاف أن التخصيص : هل يدخل على الأسماء المضمرة ، كما يدخل على الأسماء المظهرة ، كما يدل عليه التخصيص المتصل في مثل قوله تعالى : { ما فعلوه إلا قليل منهم    } { فشربوا منه إلا قليلا منهم    } فمنهم من قال : أكثر الناس على الدخول ، وتوهم بعض المتأخرين أنه لا يدخل في الضمائر ، لأن المضمر لا يدل بنفسه على جنس من الأجناس . وإنما يعود إلى المذكور أو المعلوم ، فيقل بقلته ، ويكثر بكثرته ، فلا حاجة إلى دخول التخصيص عليه . وهذا ليس بشيء ، لأن موضوعه في اللغة أن يعود إلى ما قبله ، فإذا عاد إلى بعض ما قبله فقد خص ببعض معناه . انتهى . 
وجعل الصيرفي  من هذا القسم قوله تعالى : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن    } إلى قوله { إلا أن يعفون    } فأطلق تعالى الاسم على من طلقت بهذه الصفة . وأوجب لها نصف المهر من كل مطلق ، ثم قال : { إلا أن يعفون    } فلو كان الضمير راجعا إلى الكل لجاز أن تعفو غير البالغة ، لأنه لو كان نصف الصداق لا يكون إلا على الزوج الذي له العفو لامرآته ، أو لامرآته عليه ، لكان من لا يكون له العفو لا نصف له من الصداق . وإذا بطل هذا علم  [ ص: 320 ] أن الخطاب بالعفو في بعض المذكورين في الابتداء ، ثم قال : وكل ما يجوز أن يكون في الابتداء على الإطلاق ، فالضمير راجع إلى هذا الوصف ، والحكم ثابت على ما ثبت . وكل ما لا يصح إلا على الترتيب ، فالحكم له ، وما جاز أن يقع على الجميع ، فالضمير عن جميعه . 
ومثل أيضا بقوله تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا    } ثم قال : { وإن جاهداك لتشرك بي    } فهذا إنما يكون في الكافر ، والأول على عمومه ، وكذا قوله : { يوصيكم الله في أولادكم    } الآية ثم قال : { من بعد وصية يوصي بها أو دين    } وقال أبو الحسين بن القطان    : الكناية إنما تكون على مذكور متقدم ، فإن لم يكن لم يجز أن يحمل عليه . وقد خاطبنا الله بخطاب مواجهة لم يكن على ما تقدم كقوله تعالى : { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة    } وإنما أراد بكم ، ولو خلينا والظاهر لقلنا فيه إن ذلك ليس بعطف ، لكن لما تقدم ذكر المواجهة ، علمنا عوده إليهم . نظيره قوله تعالى : { إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح    } خرجه  الشافعي  على قولين : 
أحدهما : أن المراد به الولي ، لأنه لو أراد الزوج لواجهه ، فلما عدل إلى الكناية علمنا أنه لم يرده . 
والثاني : أنه رد الكناية إلى المواجهة ، وهو الزوج لأنه ذكر عفوها وعفو زوجها ، فكنى كما كنى في { جرين بهم    } : قال : وهذا يجري في كل موضع إن قام الدليل صرنا إليه ، وإلا حمل على الظاهر . قال : وجعل بعض أصحابنا من هذا أن يعطف شيء فيكون حكم الثاني حكم الأول ، كقوله : { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم    } ثم قال : { ومن قتله منكم متعمدا    }  [ ص: 321 ] فكان الصيد اسما للفعل ، فلما قال : { لا تقتلوا    } استحال أن يكون إشارة إلى الفعل ، فعلم أن الإشارة وقعت إلى عين المصيد ، ثم عطف بقوله : { وحرم عليكم صيد البر    } فكان المعطوف الثاني على العطف الأول ، وذلك أن أهل اللغة قالوا : إن العطف على حكم المتقدم . قال : ولذلك قال : { أحل لكم صيد البحر    } ومن أصحابنا من قال هذا إذا جرين كان للفعل الثاني ، لأن الأول لم يعهد أن يكون للفعل لقيام الدلالة عليه ، وإذا لم نقدر على هذا رجعنا في ذلك إلى الحقيقة في الثاني ، فكان للفعل . 
والأجود أن يقال في هذه الآية : إنه للفعل والمصيد نفسه ، فقد حرم الأمرين جميعا ، لأنه قد يقع على المصيد ، وإذا كان يقع عليه حمل على الأمرين . ومما يبين هذا أن الآية واردة في القسم الأول أنه للفعل قوله : { وحرم عليكم صيد البر    } فلا يجوز أن يقال : فعل البر ، وإنما أراد عين المصيد ، ومثل ذلك قوله : { فطلقوهن لعدتهن    } ، ثم قال : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا    } فكان الأول محمولا على البائن والرجعية ، والثاني محمول على الرجعية . 
				
						
						
