القاعدة الرابعة عشرة   " الرخص لا تناط بالمعاصي "  ومن ثم لا يستبيح العاصي بسفره شيئا من رخص السفر : من القصر والجمع والفطر والمسح ثلاثا ، والتنقل على الراحلة ، وترك الجمعة ، وأكل الميتة ; وكذا التيمم ، على وجه اختاره السبكي  ، ويأثم بترك الصلاة إثم تارك لها ، مع إمكان الطهارة ; لأنه قادر على استباحة التيمم بالتوبة . والصحيح أنه يلزمه التيمم لحرمة الوقت ، ويلزمه الإعادة لتقصيره بترك التوبة . 
ولو وجد العاصي بسفره ماء ، واحتاج إليه للعطش  ، لم يجز له التيمم بلا خلاف . وكذا من به مرض وهو عاص بسفره ; لأنه قادر على التوبة . 
قال  القفال  في شرح التلخيص ; فإن قيل : كيف حرمتم أكل الميتة على العاصي بسفره  مع أنه مباح للحاضر في حال الضرورة ، وكذا من به مرض يجوز له التيمم في الحضر ؟ فالجواب : أن ذلك وإن كان مباحا في الحضر عند الضرورة لكن سفره سبب لهذه الضرورة ، وهو معصية ، فحرمت عليه الميتة في الضرورة ، كما لو سافر لقطع الطريق  [ ص: 139 ] فجرح  لا يجوز له التيمم لذلك الجرح ، مع أن الحاضر الجريح يجوز له . 
فإن قيل : تحريم الميتة والتيمم يؤدي إلى الهلاك 
فالجواب : أنه قادر على استباحته بالتوبة ، انتهى . 
وهل يجوز للعاصي بسفره : مسح المقيم ؟  وجهان : أصحهما : نعم لأن ذلك جائز بلا سفر . 
والثاني : لا ، تغليظا عليه ، كأكل الميتة . 
وحكي الوجهان في العاصي بالإقامة كعبد أمره سيده بالسفر ، فأقام    . 
قال في شرح المهذب : والمشهور : القطع بالجواز . 
وطرد الإصطخري  القاعدة في سائر الرخص ، فقال : إن العاصي بالإقامة لا يستبيح شيئا منها . 
وفرق الأكثرون بأن الإقامة نفسها ليست معصية ; لأنها كف ، وإنما الفعل الذي يوقعه في الإقامة معصية . والسفر في نفسه معصية . 
ومن فروع القاعدة : لو استنجى بمحترم أو مطعوم  ، لا يجزئه في الأصح ; لأن الاقتصار على الحجر رخصة فلا يناط بمعصية . 
ومنها : لو استنجى بذهب أو فضة  ، ففي وجه لا يجزيه ; لأنه رخصة واستعمال النقد حرام ، والصحيح الإجزاء . 
ومنها : لو لبس خفا مغصوبا    . ففي وجه لا يمسح عليه ; لأنه رخصة لمشقة النزع ، وهذا عاص بالترك واستدامة اللبس ، والصحيح الجواز كالتيمم بتراب مغصوب  ، فإنه يجوز ، مع أن التيمم رخصة . 
قال البلقيني    : ونظيره المسح على خف مغصوب : غسل الرجل المغصوبة في الوضوء . وصورته : أن يجب عليه التمكين من قطعها في قصاص أو سرقة ، فلا يمكن من ذلك ولو لبس خفا من ذهب أو فضة  ، ففيه الوجهان في المغصوب . 
وقطع المتولي  هنا بالمنع ، لأن التحريم هنا لمعنى في نفس الخف ، فصار كالذي لا يمكن متابعة المشي عليه . 
قال في شرح المهذب : وينبغي أن يكون الحرير مثله . 
ولو لبس المحرم الخف  ، فلا نقل فيه عندنا ، والمصحح عند المالكية : أنه ليس له المسح وهو ظاهر ، فإن المعصية هنا في نفس اللبس ، ثم رأيت الإسنوي  ذكر المسألة في ألغازه وقال : إن المتجه المنع جزما ، ولا يتخرج  [ ص: 140 ] على الخلاف في المغصوب ونحوه ; فإن المنع هناك بطريق العرض ، لا لمعنى في اللبس ، ولهذا يلبس غيره ، ويمسح عليه . 
وأما المحرم : فقام به معنى آخر ، أخرجه عن أهلية المسح لامتناع اللبس مطلقا . ومنها : لو جن المرتد  ، وجب عليه قضاء صلوات أيام الجنون أيضا ، بخلاف ما إذا حاضت المرتدة  لا تقضي صلوات أيام الحيض ; لأن سقوط القضاء عن الحائض عزيمة وعن المجنون رخصة ، والمرتد ليس من أهل الرخصة . 
ومنها : لو شربت دواء فأسقطت  ، ففي وجه تقضي صلوات أيام النفاس ; لأنها عاصية ، والأصح : لا ، لأن سقوط القضاء عن النفساء عزيمة لا رخصة . 
ومنها : لو ألقى نفسه ، فانكسرت رجله وصلى قاعدا  ، ففي وجه : يجب القضاء لعصيانه ، والأصح : لا . 
ومنها : يجوز تقديم الكفارة على الحنث رخصة  ، فلو كان الحنث بمعصية فوجهان ; لأن الرخص لا تناط بالمعاصي 
ومنها : لو صب الماء بعد الوقت لغير غرض وتيمم ، ففي وجه : تجب الإعادة لعصيانه والأصح : لا ; لأنه فاقد . 
ومنها : إذا حكمنا بنجاسة جلد الآدمي بالموت    ; ففي وجه : لا يطهر بالدباغ ، لأن استعماله معصية ، والرخص لا تناط بالمعاصي ، والأصح : أنه يطهر كغيره وتحريمه ليس لعينه ، بل للامتهان على أي وجه كان ; ولأنه يحرم استعماله ، وإن قلنا بطهارته . 
تنبيه : 
معنى قولنا " الرخص : لا تناط بالمعاصي " أن فعل الرخصة متى توقف على وجود شيء ، نظر في ذلك الشيء ، فإن كان تعاطيه في نفسه حراما ، امتنع معه فعل الرخصة ، وإلا فلا ، وبهذا يظهر الفرق بين المعصية بالسفر والمعصية فيه    . 
فالعبد الآبق ، والناشزة ، والمسافر للمكس ، ونحوه    . عاص بالسفر : فالسفر نفسه معصية والرخصة منوطة به مع دوامه ، ومعلقة ، ومترتبة عليه ترتب المسبب على السبب ، فلا يباح . 
ومن سافر مباحا ، فشرب الخمر في سفره ، فهو عاص فيه ، أي مرتكب المعصية في السفر المباح ; فنفس السفر : ليس معصية ، ولا آثما به فتباح فيه الرخص ; لأنها منوطة بالسفر ، وهو في نفسه مباح . ولهذا جاز المسح على ، الخف المغصوب  ، بخلاف المحرم ; لأن الرخصة منوطة باللبس ، وهو للمحرم معصية ; وفي المغصوب ليس معصية لذاته ، أي لكونه لبسا ، بل للاستيلاء على حق الغير ، ولذا لو ترك اللبس ، لم تزل المعصية ، بخلاف المحرم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					