اعلم أنه قد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر حديث النية    . 
قال  أبو عبيدة    : ليس في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة منه ، واتفق الإمام  الشافعي   وأحمد بن حنبل   وابن مهدي  ،  وابن المديني  ،  وأبو داود  ،  والدارقطني  وغيرهم على أنه ثلث العلم ، ومنهم من قال : ربعه ، ووجه  البيهقي  كونه ثلث العلم : بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه ، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها ; لأنها قد تكون عبادة مستقلة ، وغيرها يحتاج إليها ومن ثم ورد { نية المؤمن خير من عمله .   } 
وكلام الإمام  أحمد  يدل على أنه أراد بكونه ثلث العلم ، أنه أحد القواعد الثلاث التي ترد إليها جميع الأحكام عنده فإنه قال : أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث : حديث { الأعمال بالنية   } 
وحديث { من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد   } 
وحديث { الحلال بين والحرام بين   } . 
وقال  أبو داود    : مدار السنة على أربعة أحاديث : حديث { الأعمال بالنيات   } ، وحديث { من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه   } ، وحديث " { الحلال بين والحرام بين   } ، وحديث { إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا   } ، وفي لفظ عنه : يكفي الإنسان لدينه أربعة أحاديث ، فذكرها ، وذكر بدل الأخير : حديث { لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه   } . 
وعنه أيضا : الفقه يدور على خمسة أحاديث : { الأعمال بالنيات   } ، { والحلال بين   } ، { ولا ضرر ولا ضرار   } ، { وما نهيتكم عنه فانتهوا وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم   } . 
وقال  الدارقطني    : أصول الأحاديث أربعة { الأعمال بالنيات   } ، { ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه   } ، { والحلال بين   } ، { وازهد في الدنيا يحبك الله   } . 
وحكى الخفاف  من أصحابنا في كتاب الخصال عن  ابن مهدي   وابن المديني    : أن مدار الأحاديث على أربعة : { الأعمال بالنيات   } ، و { لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث   } ، و { بني الإسلام على خمس   } ، و { البينة على المدعي واليمين على من أنكر   } ، وقال  ابن مهدي  أيضا : حديث النية يدخل في ثلاثين بابا من العلم . 
وقال  الشافعي    : يدخل في سبعين بابا . 
قلت : وهذا ذكر ما يرجع إليه من الأبواب إجمالا : 
من ذلك : ربع العبادات بكماله ، كالوضوء ، والغسل فرضا ونفلا ، ومسح الخف في مسألة  [ ص: 10 ] الجرموق إذا مسح الأعلى ، وهو ضعيف ، فينزل البلل إلى الأسفل ، والتيمم ، وإزالة النجاسة على رأي ، وغسل الميت على رأي ، والأواني في مسألة الضبة بقصد الزينة أو غيرها ، والصلاة بأنواعها : فرض عين وكفاية ، وراتبة وسنة ، ونفلا مطلقا ، والقصر ، والجمع ، والإمامة والاقتداء وسجود التلاوة والشكر ، وخطبة الجمعة على أحد الوجهين ، والأذان ، على رأي ، وأداء الزكاة ، واستعمال الحلي أو كنزه ، والتجارة ، والقنية ، والخلطة على رأي ، وبيع المال الزكوي ، وصدقة التطوع ، والصوم فرضا ونفلا ، والاعتكاف ، والحج والعمرة كذلك ، والطواف فرضا واجبا وسنة ، والتحلل للمحصر ، والتمتع على رأي ، ومجاوزة الميقات ، والسعي ، والوقوف على رأي ، والفداء ، والهدايا ، والضحايا فرضا ونفلا ، والنذور ، والكفارات ، والجهاد والعتق والتدبير ، والكتابة ، والوصية ، والنكاح ، والوقف ، وسائر القرب ، بمعنى توقف حصول الثواب على قصد التقرب بها إلى الله تعالى ، وكذلك نشر العلم تعليما وإفتاء وتصنيفا ، والحكم بين الناس وإقامة الحدود ، وكل ما يتعاطاه الحكام والولاة ، وتحمل الشهادات وأداؤها . 
بل يسري ذلك إلى سائر المباحات إذا قصد بها التقوي على العبادة أو التوصل إليها ، كالأكل ، والنوم ، واكتساب المال وغير ذلك ، وكذلك النكاح والوطء إذا قصد به إقامة السنة أو الإعفاف أو تحصيل الولد الصالح ، وتكثير الأمة ، ويندرج في ذلك ما لا يحصى من المسائل . 
ومما تدخل فيه من العقود ونحوها : كنايات البيع والهبة ، والوقف ، والقرض ، والضمان ، والإبراء ، والحوالة ، والإقالة ، والوكالة ، وتفويض القضاء ، والإقرار ، والإجارة والوصية ، والعتق ، والتدبير ، والكتابة ، والطلاق ، والخلع ، والرجعة ، والإيلاء ، والظهار ، والأيمان ، والقذف ، والأمان . 
ويدخل أيضا فيها في غير الكنايات في مسائل شتى : كقصد لفظ الصريح لمعناه ، ونية المعقود عليه في المبيع والثمن ، وعوض الخلع ، والمنكوحة ، ويدخل في بيع المال الربوي ونحوه وفي النكاح إذا نوى ما لو صرح به بطل    . 
وفي القصاص في مسائل كثيرة منها تمييز العمد وشبهه من الخطأ  ، ومنها إذا قتل الوكيل في القصاص  ، إن قصد قتله عن الموكل ، أو قتله بشهوة نفسه . وفي الردة ، وفي السرقة فيما إذا أخذ آلات الملاهي بقصد كسرها وإشهارها أو بقصد سرقتها ، وفيما إذا أخذ الدائن مال المدين بقصد الاستيفاء ، أو السرقة  ، فلا يقطع في الأول ، ويقطع في الثاني وفي أداء الدين ، فلو كان عليه دينان لرجل ، بأحدهما رهن ، فأدى أحدهما ونوى به دين الرهن  ، انصرف إليه والقول قوله في نيته . 
وفي اللقطة بقصد الحفظ أو التمليك ، وفيما لو أسلم على أكثر من أربع ، فقال : فسخت نكاح هذه  ، فإن نوى به الطلاق كان تعيينا لاختيار النكاح ، وإن نوى الفراق أو أطلق حمل على اختيار الفراق ، وفيما لو وطئ أمة بشبهة ، وهو يظنها زوجته الحرة  ، فإن الولد ينعقد حرا وفيما لو تعاطى فعل شيء مباح له ، وهو يعتقد عدم حله  ، كمن وطئ امرأة يعتقد أنها  [ ص: 11 ] أجنبية ، وأنه زان بها ، فإذا هي حليلته  أو قتل من يعتقده معصوما ، فبان أنه يستحق دمه ،  أو أتلف مالا لغيره ، فبان ملكه    . 
قال الشيخ عز الدين    : يجري عليه حكم الفاسق لجرأته على الله ; لأن العدالة إنما شرطت لتحصل الثقة بصدقه ، وأداء الأمانة ، وقد انخرمت الثقة بذلك ، لجرأته بارتكاب ما يعتقده كبيرة . 
قال : وأما مفاسد الآخرة فلا يعذب تعذيب زان ولا قاتل ، ولا آكل مالا حراما لأن عذاب الآخرة مرتب على ترتب المفاسد في الغالب ، كما أن ثوابها مرتب على ترتب المصالح في الغالب . 
قال : والظاهر أنه لا يعذب تعذيب من ارتكب صغيرة ; لأجل جرأته وانتهاك الحرمة ; بل عذابا متوسطا بين الصغيرة والكبيرة . 
وعكس هذا : من وطئ أجنبية وهو يظنها حليلة له  لا يترتب عليه شيء من العقوبات المؤاخذات المترتبة على الزاني اعتبارا بنيته ومقصده . 
وتدخل النية أيضا : في عصير العنب بقصد الخلية والخمرية ، وفي الهجر فوق ثلاثة أيام  فإنه حرام ، إن قصد الهجر وإلا فلا . 
ونظيره أيضا : ترك الطيب والزينة فوق ثلاثة أيام لموت غير الزوج  ، فإنه إن كان بقصد الإحداد حرم وإلا فلا وتدخل أيضا في نية قطع السفر ، وقطع القراءة في الصلاة ، وقراءة القرآن جنبا بقصده ، أو بقصد الذكر . وفي الصلاة بقصد الإفهام ، وفي غير ذلك وفي الجعالة إذا التزم جعلا لمعين ، فشاركه غيره في العمل إن قصد إعانته ، فله كل الجعل ، وإن قصد العمل للمالك فله قسطه ، ولا شيء للمشارك ، وفي الذبائح . 
فهذه سبعون بابا ، أو أكثر ، دخلت فيها النية كما ترى . 
فعلم من ذلك فساد قول من قال إن مراد  الشافعي  بقوله " تدخل في سبعين بابا من العلم " المبالغة وإذا عددت مسائل هذه الأبواب التي للنية فيها مدخل لم تقصر عن أن تكون ثلث الفقه أو ربعه . 
وقد قيل في قوله صلى الله عليه وسلم : { نية المؤمن خير من عمله   } : أن المؤمن يخلد في الجنة وإن أطاع الله مدة حياته فقط ; لأن نيته أنه لو بقي أبد الآباد لاستمر على الإيمان ، فجوزي على ذلك بالخلود في الجنة ، كما أن الكافر يخلد في النار ، وإن لم يعص الله إلا مدة حياته فقط ; لأن نيته الكفر ما عاش . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					