وأما في الأعمال فأدبه أن لا يتواضع لغني لأجل غناه بل يتكبر عليه قال علي كرم الله وجهه : ما أحسن تواضع الغني للفقير رغبة في ثواب الله تعالى ، وأحسن منه تيه الفقير على الغني ثقة بالله عز وجل فهذه رتبة وأقل منها أن لا يخالط الأغنياء ولا يرغب في مجالستهم ؛ لأن ذلك من مبادئ الطمع .
قال الثوري رحمه الله إذا خالط الفقير الأغنياء فاعلم أنه مراء ، وإذا خالط السلطان فاعلم أنه لص .
وقال بعض العارفين إذا خالط الفقير الأغنياء انحلت عروته فإذا طمع فيهم انقطعت عصمته فإذا سكن إليهم ضل .
وينبغي أن لا يسكت عن ذكر الحق مداهنة للأغنياء وطمعا في العطاء .
وأما أدبه في أفعاله لا يفتر بسبب الفقر عن عبادة ولا يمنع بذل قليل ما يفضل عنه ، فإن ذلك جهد المقل وفضله أكثر من أموال كثيرة تبذل عن ظهر غنى روى زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : درهم من الصدقة أفضل عند الله من مائة ألف درهم ، قيل : وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : أخرج رجل من عرض ماله مائة ألف درهم فتصدق بها ، وأخرج رجل درهما من درهمين لا يملك غيرهما طيبة به نفسه فصار صاحب الدرهم أفضل من صاحب المائة ألف وينبغي أن لا يدخر مالا بل يأخذ قدر الحاجة ويخرج الباقي وفي الادخار ثلاث درجات : إحداها : أن لا يدخر إلا ليومه وليلته وهي درجة الصديقين ، والثانية : أن يدخر لأربعين يوما فإن ما زاد عليه داخل في طول الأمل وقد فهم العلماء ذلك من ميعاد الله تعالى لموسى عليه السلام : ففهم منه الرخصة في أمل الحياة أربعين يوما .
وهذه درجة المتقين . والثالثة : أن يدخر لسنته وهي أقصى المراتب وهي رتبة الصالحين ومن زاد في الادخار على هذا فهو واقع في غمار العموم خارج عن حيز الخصوص بالكلية ، فغنى الصالح الضعيف في طمأنينة قلبه في قوت سنته ، وغنى الخصوص في أربعين يوما ، وغنى خصوص الخصوص في يوم وليلة وقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم نساءه على مثل هذه الأقسام فبعضهن كان يعطيها قوت سنة عند حصول ما يحصل، وبعضهن قوت أربعين يوما وليلة وهو قسم عائشة وحفصة .


