وقد ابتدع الناس عند الذكر رفع أصوات وعند الجنائز أيضا ، وعند الحرب بوقات ودبادب ، وابتدعوا المكاء والتصدية  المضارع للذكر ، وحصل عنده أصوات وحركات . ورخص في الصوت عند الفرح الشرعي ، واستحب عند النكاح لإعلانه   . 
فالذي يحصل من الرقص والحركات هو خلاف القصد في المشي ، والذي يحصل من الغناء والمزامير خلاف غض الصوت  ولهذا  [ ص: 85 ] يحصل بهذا خلاف ما ذكر الله في قوله : وإذا مروا باللغو مروا كراما  والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا   [الفرقان :72 - 73] ، فإنهم يصغون إلى اللغو ويخرون عند آيات الله صما وعميانا ، والصوت المطلق أو المتضمن لنوع تشويق أو تحزين أو تفريح أو تغضيب يوجب حركة مطلقة ، لا إلى معبود معين ولا لعبادة معينة ، فلذا تجد غالب المتنغمين للصوت المطلق أرباب حركة مطلقة ضالين ، لا يعرفون من يعبدون ولا بماذا يعبدون . لكن قد يحصل لهم تأثيرات شيطانية لاستفزاز الشيطان . فظهر بالانحراف اليهودي صوت الغضب بالحاجات العلمية ، وبالانحراف النصاري صوت بالمطربات الجالبة الخطأ لمعترض . 
وأما سببه فقد يكون حركة حيوان ، وقد يكون حركة غير حيوان ، إما طبعية وإما قسرية ، ولكن القسرية الطبعية فرع الاختيارية ، فإن الحيوان . . . . . . . إلا عن حيوان . 
يبين ذلك أنه لما حصل في المنحرفين إلى شبه من النصرانية التحرك عن الصوت المطلق ، سواء كان بالآيات أو بأبيات ، بل منهم من يرجح السماع لصوت الأبيات ، لما تتضمنه من مطلق وصف الشوق والوصل والهجر وأحوال الحب المطلق أو الحزن المطلق ، بل قد  [ ص: 86 ] يرجح سماع الصوت المحض الذي لا حروف معه ، سواء كان صوت إنسان بمجرده أو مقترنا بالأبواق والصفارات والدفوف المصلصلة والأوتار وغير ذلك ، لما في الصوت من تحريكه وتهييجه والتذاذه به بحسب حاله ، كما يصيب المتحرك عن الشراب والطعام الجسماني من الخمر والحشيشة ، أو عن العيان النفساني في الشاهد ونحوه . 
وهذا الانحراف إنما وقع في النصارى من الصابئة الفلاسفة الذين هم أئمة صناعة الصوت التي يسمونها الموسيقى  ، دخل بسبب هذا القدر المشترك بينهم وبين الصائبة قوم من الصابئة في اسم التصوف ونحوه ، وقرروا الانحرافات الصابئية . قال  الشافعي  رضي الله عنه : خلفت ببغداد  شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير ، يصدون به الناس عن القرآن . فإن إحداث التغبير إنما هو من المتفلسفة الزنادقة ، ولهذا قال  أبو عبد الرحمن السلمي  في «مسألة السماع » عن ابن الراوندي  أنه قال : اختلف الفقهاء في السماع هل هو حلال أو حرام ؟  وأنا أقول : هو واجب . وهذا قول الزنادقة كما ذكره  الشافعي   . 
ولهذا قرر ابن سينا  في الإشارات وغيره من المتفلسفة أمر سماع الألحان وعشق الصور ، وجعلوه من جملة الطريق التي توصل إلى الله  [ ص: 87 ] وتزكي النفوس ، وهاتان الآفتان هي التي دخل بها الشيطان في المتصوفة  ، كما قال : رأيت إبليس فقلت : يا عدو الله ، نجونا منك ، فإنا تركنا الدنيا التي تصطاد بها الناس ، أو كلاما هذا معناه . فقال : ولكن بقي لي فيكم لطيفة السماع وصحبة الأحداث . 
لكن العقلاء إذا وقعوا في ذلك علموا أنه من هوى النفوس ، وأنه من الذنوب التي يجب على صاحبها التوبة والاستغفار . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					