الثلاثون : قال الخطابي - رحمه الله - تعالى : تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل   على وجهين . 
أحدهما : أن الله - تعالى - قد أباح «التقية» إذا خاف الهلاك ، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان  إن [كان] يمكنه التورية ، فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل  إلى الهلاك مع وجود السبيل إلى الخلاص من الموت بالتقية . 
والوجه الثاني : أنه إنما رده إلى أبيه ، والغالب أن أباه لا يبلغ به الهلاك ، وإن عذبه أو سجنه فله مندوحة بالتقية أيضا ، وأما ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من الله - تعالى - يبتلي به صبر عباده المؤمنين . 
الحادي والثلاثون : اختلف العلماء رحمهم الله ، هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا ؟  فقيل : نعم ، على ما دلت عليه قصة أبي جندل  وأبي بصير .  وقيل : لا . وإن الذي وقع في القصة : منسوخ ، وإن ناسخه «أنا  [ ص: 78 ] 
بريء من  مسلم  بين المشركين» وهو قول الحنفية ،  وعند الشافعية  ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب الثاني والثلاثون : قال النووي   - رحمه الله - وافق النبي - صلى الله عليه وسلم - في رد من جاء من المشركين في ترك كتابته بسم الله الرحمن الرحيم وكتب باسمك اللهم ، وفي ترك كتابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي رد من جاء منهم إلى المسلمين دون من جاء من المسلمين إليهم وإنما وافقهم في هذه الأمور للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح مع أنه لا مفسدة في هذه الأمور ، أما البسملة وباسمك اللهم فمعناها واحد ، وكذلك قوله : «محمد  بن عبد الله» هو أيضا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس في ترك وصف الله تعالى في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفي ذلك ولا في ترك وصفه - صلى الله عليه وسلم - هنا بالرسالة لا ينفيها ، ولا مفسدة فيما طلبوه ، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتبوا ما لا يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك ، وإنما شرط رد من جاءنا منهم ومنع من ذهب إليهم فقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الحكمة فيه بقوله : 
«من ذهب منا إليهم فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا»  . ثم كان كما قال - صلى الله عليه وسلم - فجعل الله للذين جاءونا منهم وردهم إليهم فرجا ومخرجا . ثم كان كما قال - صلى الله عليه وسلم . 
الثالث والثلاثون : في إتيان  عمر   أبا بكر  رضي الله عنهما وإجابة  أبي بكر  لعمر بمثل ما أجاب به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دلالة على أنه أكمل الصحابة وأعرفهم بأحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلمهم بأمور الدين وأشدهم موافقة لأمر الله - تعالى - وسبق في باب إرادة الصديق الهجرة قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورد ابن الدغنة  له ، وقوله لقريش ،  إن مثله لا يخرج ، ووصفه بنظير ما وصفت به  خديجة   - رضي الله عنها - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كونه يصل الرحم ويحمل الكل ويعين على نوائب الحق وغير ذلك . فلما كانت صفاتهما متشابهة من الابتداء ، استمر ذلك إلى الانتهاء ، ولم يذكر  عمر  أنه راجع أحدا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير  أبي بكر ،  وذلك لجلالة قدره وسعة علمه  عنده . 
الرابع والثلاثون : قول  عمر   - رضي الله عنه - فعملت لذلك أعمالا ، قال بعض الشراح - رحمهم الله : أي من الذهاب والمجيء والسؤال والجواب ، لم يكن ذلك شكا من  عمر  ، بل طلبا من كشف ما خفي عليه ، وحثا على إذلال الكفار ، لما عرف من قوته في نصرة الدين . 
انتهى . 
قال الحافظ :  وتفسير الأعمال بما ذكر مردود ، بل المراد الأعمال الصالحة ليكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء . وقد ورد عن  عمر  التصريح بمراده بقوله : «أعمالا  [ ص: 79 ] 
لأتقي» ، ورواية  ابن إسحاق :  فكان  عمر  يقول : ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به . وعند  الواقدي  من حديث  ابن عباس   : قال  عمر :  
لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا ، وأما قوله : ولم يكن شك ، فإن أراد نفي الشك فواضح ، وقد وقع في رواية  ابن إسحاق  أن  أبا بكر  لما قال له الزم غرزه فإنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال  عمر :  أنا أشهد أنه رسول الله ، وإن أراد نفي الشك في وجود المصلحة وعدمها فمردود ، وقد قال السهيلي   - رحمه الله - هذا الشك ما لا يستمر صاحبه عليه ، وإنما هو من باب الوسوسة ، كذا قال الحافظ .  والذي يظهر أنه توقف معه ليقف على الحكمة في القصة ، وتنكشف عنه الشبهة ، ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي ،  وإن كان في الأول لم يطابق اجتهاده الحكم ، بخلاف الثانية ، وهي هذه القصة ، وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه ، وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه ، بل هو مأجور ، لأنه مجتهد فيه . 
الخامس والثلاثون : إنما توقف المسلمون في النحر والحلق بعد الأمر بهما ، لاحتمال أن يكون الأمر بذلك للندب ، أو لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور ، وتخصيصه بالإذن بدخولهم مكة  ذلك العام لإتمام نسكهم ، ويسوغ لهم ذلك ، لأنه كان زمان وقوع التشريع . ويحتمل أن يكونوا أبهتهم صورة الحال فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم مع ظهور قوتهم واقتدارهم - في اعتقادهم - على بلوغ غرضهم وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة ، وأخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقضي الفور ، ويحتمل مجموع هذه الأمور لمجموعهم كما سبق في القصة من كلام  أم سلمة   - رضي الله عنها - في قولها «لا تلمهم» إلخ . 
السادس والثلاثون : في كلامه - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة  في توقف الناس عن امتثال أمره ، جواز مشاورة الأمر المرأة الفاضلة ،  وفضل  أم سلمة  ووفور عقلها ،  حتى قال إمام الحرمين : لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا  أم سلمة ،  كذا قال وقد استدرك بعضهم عليه بنت شعيب  في أمر موسى .  
السابع والثلاثون : لا يعد ما وقع من أبي بصير  من قتله الرجل الذي جاء في طلبه غدرا لأنه لم يكن في جملة من دخل في المعاقدة التي بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش ،  إلا أنه إذ ذاك كان محبوسا بمكة ،  لكنه لما خشي أن المشرك يعيده إلى المشركين درأ عن نفسه بقتله ، ودافع عن دينه بذلك ، ولم ينكر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك . 
الثامن والثلاثون : في حديث  المسور ،  ومروان  بعد ذكر قصة أبي بصير ،  فأنزل الله - تعالى : وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم   [الفتح 24] ظاهره أنها نزلت في  [ ص: 80 ] 
شأن أبي بصير ،   وفيه نظر ، والمشهور في سبب نزولها ما رواه  مسلم  من حديث  سلمة بن الأكوع  ، ومن حديث  أنس بن مالك ،  وأحمد ،  والنسائي  بسند صحيح من حديث  عبد الله بن مغفل  أنها أنزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش  أن يأخذوا من المسلمين غرة فظفر المسلمون بهم ، فعفا عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل في سبب نزولها غير ذلك . 
التاسع والثلاثون : قال  البلاذري   - رحمه الله - قال العلماء : والمصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح  ما ظهر من ثمراته الباهرة وفوائده الظاهرة التي كانت عاقبتها فتح مكة  وإسلام أهلها كلهم ودخول الناس في دين الله أفواجا ، وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون ، ولا يتظاهر عندهم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ، هو ولا يخلون بمن يعلمهم بها مفصلة ، فلما حصل صلح الحديبية  اختلطوا بالمسلمين وجاءوا إلى المدينة ،  وذهب المسلمون إلى مكة  وخلوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونهم ، وسمعوا منهم أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - مفصلة بجزئياتها ، ومعجزاته الظاهرة ، وأعلام نبوته المتظاهرة ، وحسن سيرته ، وجميل طريقته ، وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك ، فمالت نفوسهم إلى الإيمان حتى بدر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة  فأسلموا بين صلح الحديبية  وفتح مكة ،  وازداد الآخرون ميلا إلى الإسلام ، فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم لما كان تمهد لهم من الميل ، وكانتالعرب  في البوادي ينتظرون بإسلامهم إسلام قريش  فلما أسلمت قريش  أسلمت العرب  في البوادي . 
				
						
						
