الباب الحادي والتسعون في وفود علماء نجران  إليه صلى الله عليه وسلم وشهادتهم له بأنه النبي الذي كانوا ينتظرونه  وامتناع من امتنع عن ملاعنته . 
روى  البيهقي  عن  يونس بن بكير   [عن سلمة بن يسوع   ] عن أبيه عن جده- قال يونس  وكان نصرانيا فأسلم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران  قبل أن ينزل عليه : طس   [النمل 1] إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم   [النمل 30] ، يعني النمل ، «بسم إله إبراهيم  وإسحاق  ويعقوب  من محمد  النبي رسول الله إلى أسقف نجران  وأهل نجران  إن أسلمتم فإني أحمد إليكم إله إبراهيم  وإسحاق  ويعقوب  ، أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عباده العباد ، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد ، فإن أبيتم فالجزية ، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام» . 
فلما أتى الأسقف الكتاب وقرأه قطع به وذعرا شديدا ، فبعث إلى رجل من أهل نجران  يقال له شرحبيل بن وداعة  ، وكان من همدان   . ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة إلا الأيهم وهو السيد والعاقب   . فدفع الأسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل  وقرأه ، فقال الأسقف : 
يا أبا مريم  ، ما رأيك ؟ فقال شرحبيل   : قد علمت ما وعد الله إبراهيم  في ذرية إسماعيل  من النبوة فما تؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرجل ، ليس لي في النبوة رأي ، ولو كان أمرا من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأي وجهدت لك . فقال له الأسقف : تنح فاجلس ناحية . فتنحى شرحبيل  فجلس ناحية . 
فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران  يقال له عبد الله بن شرحبيل  وهو من ذي أصبح من حمير  ، فأقرأه الكتاب وسأله ما الرأي ؟ فقال نحوا من قول شرحبيل بن وداعة   . فقال له الأسقف : تنح فاجلس ، فتنحى فجلس ناحية . ثم بعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران  يدعى  [ ص: 416 ] جبار بن فيض  من بني الحارث بن كعب  أحد بني الحماس  ، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه فقال له مثل قول شرحبيل بن وداعة  ، وعبد الله بن شرحبيل  ، فأمره الأسقف فجلس ناحية . 
فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعا أمر الأسقف بالناقوس فضرب به ، ورفعت النيران السرج في الصوامع وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا نهارا فإن فزعوا بالليل ضربوا بالناقوس ورفعوا النيران في الصوامع . فاجتمع حين ضرب بالناقوس ورفعت السرج أهل الوادي أملاه وأسفله ، وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع ، وفيه ثلاث وسبعون قرية ، ومائة ألف مقاتل ، فقرأ عليهم الأسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عن الرأي فيه . فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني  ، وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي  ، وجبار بن فيض الحارثي  فيأتوهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم . 
وقال  ابن إسحاق   : وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران  ، ستون راكبا ، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم منهم العاقب وهو عبد المسيح والسيد وهو الأيهم  ، وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل  ، وأوس  ، والحارث  ، وزيد  ، وقيس  ، ويزيد  ، وبنيه  وخويلد  ، وعمرو  ، وخالد  ، وعبد الله  ، ويحنس  ، منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم : العاقب  أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه ، واسمه عبد المسيح  والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم . 
وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل  أسقفهم وحبرهم وإمامهم ، وصاحب مدراسهم ، وكان أبو حارثة  قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم ، فكانت ملوك الروم  من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم . فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة  وضعوا ثياب السفر عنهم ولبسوا حللا لهم يجرونها من حبرة وتختموا بالذهب . وفي لفظ : دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده [في المدينة   ] حين صلى العصر ، عليهم ثياب الحبرات : جبب وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب   . 
فقال بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ : ما رأينا وفدا مثلهم . وقد حازت صلاتهم . فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون نحو المشرق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «دعوهم» . ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسلموا عليه فلم يرد عليهم السلام ، وتصدوا لكلامه نهارا طويلا فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل والخواتيم الذهب . 
فانطلقوا يتبعون  عثمان بن عفان  ،  وعبد الرحمن بن عوف  رضي الله تعالى عنهما وكانوا  [ ص: 417 ] يعرفونهما ، فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس فقالوا لهما : يا  عثمان  ويا عبد الرحمن  ، أن نبيكما كتب إلينا كتابا فأقبلنا مجيبين له ، فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا ، وتصدينا لكلامه نهارا طويلا فأعيانا أن يكلمنا فما الرأي منكما ؟ أنعود إليه أم نرجع إلى بلادنا ؟ . 
فقالا  لعلي بن أبي طالب  رضي الله تعالى عنه وهو في القوم : ما الرأي في هؤلاء القوم يا أبا الحسن  ؟ فقال لهما : أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودوا إليه . ففعل وفد نجران  ذلك ووضعوا حللهم ونزعوا خواتيمهم ولبسوا ثياب سفرهم ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه فرد عليهم سلامهم ثم قال : «والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى وأن إبليس لمعهم» . 
				
						
						
